جان كلود سعادة

موت مزرعة

25 تموز 2023

02 : 00

المنظومة الذكية التي أمسكت مقاليد البلد بعد إقفال ملف الحرب الأهلية، عرفت كيف تركّب النظام الأفضل لمصالحها ومنافعها. فاتّفق أطرافها على قتل فكرة الدولة وتحنيطها ومن ثمّ حشوها بالمحاسيب والصناديق وتركيبات (montages) النهب والسرقة. فقرر أخوة المنظومة تحت الوصاية وما بعدها بناء «جمهورية المزرعة النفعيّة المافيوقراطيّة»، والباقي معروف ونستذكره فقط للتأكيد على خبث هذه المنظومة ومسؤوليتها الإجرامية في قتل البلد وشطب مستقبله، والأهم للإصرار على ضرورة محاسبتها في الداخل والخارج وفي هذا العالم وفي الذي يليه إن وجد.

لا نُنكر للمنظومة «شطارتها» في ترتيب الأمور والأولويات، فهي اتّبعت مجموعة خطط وخطوات مكّنتها من تضخيم الأرباح وإطالة عمر الخديعة وتمريرها على الغالبية العظمى من الناس التي صدّقت أو أرادت أن تصدّق أنّ «كل شي ماشي» والبلد بخير. من أدوات المنظومة في تنفيذ مخططها كان التالي:

1 - تقاسم السلطة والأدوار والمراكز: فالدولة هي رقعة شطرنج يتقاسمونها ثم يتحاربون عليها إلى أن يخسروا أو يربحوا وليس في حساباتهم أي شكل من أشكال التعاون والعمل المشترك لتحسين الخدمة العامة وتأمين مصالح المجتمع.

2 - حشو الدولة بالمحاسيب والتنفيعات: فالسرقة لم تبدأ منذ أربع سنوات بل منذ ثلاثين عاماً وما قبل، عند دخول المحاسيب الى القطاع العام لمكافأتهم على الولاء للزعيم أو للحزب. فقامت الدولة على ظهر أقلية مجتهدة عملت على تسيير أمور الناس بينما تمّ هدر معاشات وتعويضات البقية وتحميل بطالتهم المقنّعة للمجتمع بكامله. ولا ننسى الكثيرين ممن مارسوا ثقافة الخوّات والبلطجة داخل إدارات الدولة.

3 - سرقة المال العام بالإلتزامات والسمسرات: لا نحتاج إلى تدقيق جنائي لنعرف كيف تمّت إدارة تلزيمات الدولة والقطاع العام خلال ثلاثة عقود. فالكل فهم اللعبة والكل استفاد ووزّع المشاريع والمناقصات والسمسرات.

4- إبتداع الصناديق والجمعيات للنهب المموّه: بهدف تنظيم الفساد والنهب وتغليفه بأهداف وعناوين برّاقة تمّ إنشاء الصناديق والجمعيّات وكذلك سُمح للمصرف المركزي بأن يمتلك ويدير أكبر الإمتيازات والشركات في البلد وذلك طبعاً لتأمين الخير العام ليس إلّا.

5 - سرقة المساعدات وإهدار القروض: ليس من السهل أن نضع رقماً على مجموع المساعدات والهبات والقروض المدعومة من الصناديق العربية والدولية التي وصلت إلى الدولة اللبنانية وتم شفطها أو هدرها أو صرفها على تلزيمات بالتراضي. الأرجح أنّ الأرقام خيالية وخسارة البلد من جرائها لا توصف نظراً للحالة المزرية التي وصلت إليها البنية التحتيّة والخدمات.

6 - تركيب آلة محترفة للنهب: مع غياب أيّ رُؤية اقتصادية للبلد كانت للعصابة رُؤيتها الخاصة لكيفية اختلاس المال العام وسرقة المال الخاص عبر النظام المالي نفسه وليس عن طريق شركة واحدة أو مصرف واحد. وآلة النهب هذه تدخل في تركيبتها مجموعة من الأدوات تبدأ بالسريّة المصرفيّة وسياسة تثبيت سعر الصرف إلى تركيب مخطط بونزي احتيالي مدموج مع آلية لشفط الدولارات الحقيقية التي تدخل البلد وتهريبها الى الخارج وتبديد الباقي على إدارة الإنهيار والدعم و»صيرفة» وتوزيع الهبات والقروض على نادي أصدقاء المنظومة. إلى أن وصلنا إلى فتح البلد بالكامل على «اقتصاد الكاش» الموجود أصلاً مع ما يتبع ذلك من ممارسات وتشويه لما تبقّى من سمعة البلد.

7 - سرقة وتبديد تحويلات المغتربين: تفوق تحويلات المغتربين اللبنانيين خلال العقود الثلاثة الأخيرة المئتي مليار دولار على أقل تقدير احتجز جزء منها من قبل المصارف وجزء آخر ذهب الى القطاع العقاري. كانت هذه المبالغ قادرة أن تبني البلد من الصفر وأن تحوّل اقتصاده إلى أحد أقوى اقتصادات المنطقة لو توفّرت الأسواق المالية والقطاعات المنتجة والجاهزة لاستقبال الإستثمارات والتوسّع.

8 - سرقة أموال المودعين: خاتمة إنجازات المنظومة كانت الإنتقال من سرقة المال العام إلى السطو في وضح النهار على ودائع اللبنانيين؛ فمع هذا الإنجاز الفريد يكون لبنان الدولة الوحيدة في العالم التي تحمّل مواطنيها نتيجة ثلاثين عاماً من الفشل والفساد والإرتكابات وذلك بهدف حماية مجموعة من اللصوص والفاسدين.

لكن ما فات هذه المنظومة هو أنّه حتى المزرعة لا تفلت من قانون الطبيعة وهي بحاجة إلى عناية وعمل لكي تستمر أرضها بالإنتاج. فإدارة هذه المزرعة على مبدأ «إسرقه ثمّ احرقه» أوصلت البلد الى وضع الدولة الفاشلة (Failed State) والمارقة التي تحوّلت الى «بورة للكسر» وبيع المخدّرات وتبييض الأموال وكافة أنواع الجرائم والموبقات، ولم يعد بمقدور المنظومة الإستمرار في تجميل الصورة ولا تغطية الحقيقة ولا ابتداع السرديّات.

المزرعة ماتت، أو هي على وشك، وكل من يستطيع الرحيل رحل أو يحاول بشتّى الطرق، بينما المنظومة ما زالت تحاول الإفلات من المحاسبة وإعادة إنتاج نفسها بأشكال وأسماء جديدة و»تركيبة مطوّرة».

(*) خبير متقاعد في التواصل الاستراتيجي


MISS 3