طوني عطية

"القضية" والهوية الضائعة: أين المسلمون منها؟

4 آب 2023

02 : 00

"بيروتشيما" العصر (فضل عيتاني)


إنّه العام 2120، الذكرى المئوية لإنفجار مرفأ بيروت 2020. يصعب علينا من الآن، تحديد التقنيات أو الوسائل البارزة في ذاك المستقبل، التي سيستعيد عبرها اللبنانيون شريط الأحداث ووقائع الكارثة، لكن الأكيد، أنهم سيشاهدونها مرئيّاً وبأدق تفاصيلها ومجرياتها وتطوّراتها كأنّهم في دائرة الزمن الحالي.



بينما لو وقعت تلك الفاجعة قبل 100 عام على سبيل المثال لا الحصر، لكان مركب التاريخ قد نقلها إلينا على متن بعض الصور الجامدة والشهادات المكتوبة، كالمجاعة التي التهمت حياة ثلثي سكان متصرّفية جبل لبنان خلال الحرب العالمية الأولى، والراسخة أكثر في ذاكرة قسم من اللبنانيين. نقول جزءاً منهم، لأنّ الأحداث الكبيرة التي عصفت بلبنان عبر تاريخه، قبل نشوء الدولة وبعدها، لها تعاطف ومناصرة واستمالة حسب موقع الحدث وبيئته ومجتمعه.



هذه القاعدة قد يشرد عنها بعض الإستثناءات، لكنّها لا تزال سارية المفعول، وتنطبق على جريمة الرابع من آب التي ضربت الشطر الشرقي من العاصمة، وحوّلته إلى «بيروتشيما» العصر. إذ نال النطاق المسيحيّ من بيروت (الأشرفية، المدوّر، الرميل، الصّيفي) النّصيب الدّامي الأكبر. بعض الشوارع والمنازل والكنائس دُمّر بالكامل، ثلاثة مستشفيات تابعة لمؤسسات كنسيّة خسرت عدداً من طاقمها التمريضي إلى جانب الأضرار الفادحة التي لحقت بها. مدارس تاريخيّة عدّة تابعة للكنيسة تضرّرت أيضاً في الجمّيزة ومار مخايل والجعيتاوي، ناهيك عن الأرواح والجرحى والمتضررّين. 


ضحايا من مختلف الطوائف والمناطق والجنسيات



صحيح أنّ الضحايا ينتمون إلى مختلف الطوائف والمناطق والجنسيات (أكثر من مئتي شخص وحوالى 6000 جريحٍ)، لكن الإنطباع السائد لدى شريحة واسعة من الرأي العام وخصوصاً المسيحيّ، أنّ القضية لم تأخذ احتضاناً وطنياً عارماً على غرار إنفجار الرابع عشر من شباط (2005)، الذي وقع في الشطر الآخر من المدينة، وأودى بحياة رئيس الحكومة رفيق الحريري ورفاقه. وسرعان ما تحوّل إلى زلزال شعبي مسيحي - إسلامي، هزّ أركان الإحتلال السّوري وأخرج جيشه. واعتبر المسيحيون أنّ ّالإنفجار هو نتيجة مؤامرة أو أهمالٍ مقصود ومشبوه، خصوصاً مع اكتشاف شحنات نيترات الأمونيوم المُخزّنة بطريقة غير آمنة، وعدم سحبها من "مرفئهم" ومعالجتها في الوقت المناسب. وما رفع شعور الإحباط والغبن لديهم، هو كيفية تعاطي مؤسسات وهيئات الدولة كالهيئة العليا للإغاثة التي لم تتدخّل بشكلٍ سريعٍ وفعّال أسوة بحوادث أخرى.

لم ينل تاريخ 4 آب وهج 14 شباط وآذار، فما هي الأسباب الموجبة المُعرقلة لارتقاء القضية من حالة التضامن الإنساني والإجتماعي فقط، إلى النطاق الشعبي والسّياسي العريض كتعويض عن نقص العدالة الهاربة من مجرميها حتّى اليوم؟ وهل هي قضية مسيحية أم وطنية؟ وأين المسلمون منها؟



علوش: الظروف مختلفة



بعد ثلاث سنوات، يُشدّد النائب السابق د. مصطفى علّوش الذي واكب صعود وهبوط 14 آذار، على أن "انفجار المرفأ أصابنا جميعاً وليس فقط المسيحيين أو المنطقة الأكثر تضرّراً"، مشيراً في حديث لـ"نداء الوطن" إلى أنّ "لحظة وقوع الجريمة شعرنا بأننا أمام 14 شباط جديد، لكن الظروف والمعطيات السياسية الراهنة، اختلفت عما كانت عليه في 2005".

يُفنّد علّوش الموصوف بوضوحه وجرأته، المسألة من دون مواربة، قائلاً إن "المسؤولية مرتبطة بشكل أساسي بسطوة وهيمنة "حزب الله" على الدولة وسلطاتها السياسية، ما يُعيق تحقيق العدالة وإلباسها لبوساً طائفياً واللعب على وتر أن التحقيق مسيّس مع استدعاء بعض الشخصيات السياسية والأمنية المُتّهمة بشكل أساسي في الجريمة أو لها علاقة وظيفية وإدارية محسوبة على محوره، ما دفعه إلى فتح معركة ضدّ المُحقّق العدلي (طارق البيطار). هذه السياسة اعتمدها الحزب أيضاً في قضية الشهيد الحريري، مع انطلاق سير العدالة بإنشاء المحكمة الدولية الخاصّة بلبنان، حيث بدأت تتكشف صلته بالحادثة، فحصل الإنقسام الوطنيّ الحادّ".

في المقابل، لا يُخفي علّوش لومه تجاه بعض القوى المسيحيّة الذي حصر الفاجعة في النطاق المسيحيّ ووضعها في دائرة الإستهداف المباشر لهم دون سواهم، "مع العلم، أن كل مواطن في لبنان قد تضرّر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من تفجير المرفأ الذي هو رئة لبنان الإقتصادية". في هذا السّياق، استطرد علّوش متطرّقاً، إلى العمل الإرهابي الذي طال مسجدي التقوى والسلام في طرابلس (2013)، إذ أعرب اللبنانيون في البداية عن شعورهم وتعاطفهم الإنساني مع الضحايا، إلى أن تلاشت القضية ولم تتحوّل إلى جامعة لبنانية، لأنّ المكوّنات الأخرى اعتبرتها صراعاً سنيّاً – سنيّاً أو إسلامياً. هذه الذهنية الطائفية والتقسيمية التي ترخي بظلالها على مجمل الأحداث السياسية والأمنية والمجتمعية، تؤدي حكماً إلى تساقط الحاضنة الوطنية".



تشتت آذاري



لا يقف عضو "المجلس الوطني لرفع الإحتلال الإيراني عن لبنان"، عند هذا الحدّ من التحليل، فأشار إلى أن "الهدف أو العدوّ كان واضحاً في 14 آذار. أما اليوم، فبعض القوى السيادية الرئيسيّة تُخفّف من توصيف وطأة "الإحتلال الإيراني" وهذا ما ينعكس على بلورة القضايا الوطنية ورفع رايتها، طالما أنّ المُتّهم هو واحد في الجريمتين، ثمّ أن "التشتّت الآذاري الذي بدأ مع احتلال "حزب الله" لبيروت (أحداث 7 أيّار) وشعور المكوّن السنّي بالهزيمة وحده دون سواه، ودفعه إلى تسويات وربط نزاع مع المحور المناهض، والتموضع الجديد لرئيس "الحزب التقدّمي الإشتراكي" آنذاك وليد جنبلاط، كلّها عوامل ساهمت في إفراغ التلاقي الإسلامي – المسيحي، حول القضايا والفواجع الوطنية، وأصبحت كل طائفة تهتمّ بمشاكلها ومصائبها".



منى فياض: هيمنة "الحزب"



من جهتها، ترى الباحثة والناشطة السياسيّة د. منى فيّاض (عضو "لقاء سيّدة الجبل")، في حديث لـ"نداء الوطن" أن الإنفجار الشهير لم يدمِ المسيحيين فقط وإن كانوا الأكثر تضرّراً، بل حصد ضحاياه من مختلف الطوائف والمناطق". واعتبرت أن الظروف المغايرة التي رافقت أحداث 14 آذار، أكان لناحية تحديد الجهة المتّهمة والمتورّطة من جهة، وسعيها لتحرير لبنان من الإحتلال السّوري من جهة أخرى، أدّت إلى تلك الإنتفاضة الشعبية اللبنانية التاريخية، محقّقة هدفها التحرّري، لكنها سقطت في فخّ الاحتواء والإنفتاح على "حزب لله" من خلال التحالف الرباعي وتهميش مكوّنات المعارضة الشيعية".

ورغم أن انفجار مرفأ بيروت قد وقع بعد سنة على انتفاضة 17 تشرين (2019)، وحيث أنّ "النبض الثوري" كان لا يزال يتدفّق في عروق المنتفضين وحركاتهم وتجمّعاتهم على مختلف مشاربهم، رأت فيّاض، أنّ هيمنة "حزب الله" على القرار اللبناني وخرقه للسلطة السياسية والمكوّنات اللبنانية كافة، وتعزيز نفوذه (على عكس ما كان عليه لحظة انفجار ثورة الأرز)، وسلسلة الغارات التي شنّها "الثنائي الشيعي" على خيم المعتصمين ترهيباً وعنفاً، كلها أمور مكّنته من تشتيت جهوزية المواطنين واستعدادهم للنزول إلى الساحات والشوارع. وما ساعده في ذلك، أنّ الواقع الإقتصادي الصعب، ساهم في حشر اللبنانيين الرافضين لوجوده وسلاحه، في قضاياهم المعيشية. فالمواطن بات همّه تأمين قوته اليومي له ولعائلته".

وفي موقف لافت، اعتبرت فيّاض أن زيارة الرئيس الفرنسي إلى بيروت إيمانويل ماكرون، والذي "طبطب" على أكفّ المسؤولين ورفضه لتحقيق دولي، واعداً اياهم بتحقيق العدالة، ساهم في "تنفيس" الحركة الشعبية التي كان يمكن أن تأخذ منحى تصاعديّاً، يتخطّى البعد الطائفي أو المناطقي لجريمة العصر.


MISS 3