حسان الزين

تعطيل التحقيق والعدالة والأدب والفنون

4 آب 2023

02 : 00

عُطِّل التحقيق في انفجار مرفأ بيروت. ويحاول المعطِّلون الإفلات من العقاب، وتكريس هذا النهج على دماء أقسى المآسي التي ضربت البلد في الصميم. ومع هذه الفاجعة، العدالةُ معرّضةٌ للذهاب أدراج الرياح. ومع ذهاب العدالة يذهب لبنان.

والمأساة لا تقتصر على ذلك. فقضية الوصول إلى الحقيقة والعدالة، التي سِيقت إلى البازار السياسي، باتت شأناً خاصّاً بأهالي الضحايا. وفيما اخترقت هؤلاءَ يدُ القوى السياسية وقسّمتهم، غضّ المجتمعُ الطرفَ عن مأساتهم المضاعفة: حزن على الضحايا، وألم من تعطيل التحقيق والعدالة.

وفي هذه الأجواء، يمكن ملاحظة أن الأدبَ والفنونَ لم يوليا الحدث الكارثي الاهتمام الكافي. فباستثناء المنتجات "الانفعاليّة" التي صدرت على أثر الانفجار، قبل ثلاث سنوات، يغيب هذا الحدث المفصلي في تاريخ لبنان عن الأدب والفنون.

وهذا ليس أمراً عابراً، أو تفصيلاً هامشيّاً يمكن تجاوزه بسهولة وخفّة.

لا مفر من مساءلة الأدباء والأديبات والفنانين والفنانات، وكذلك المتخصّصين والمتخصّصات في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة والمثقّفين والمثقّفات عموماً، ونقدِهم وتوجيه اللوم لهم. لكن الأمر يستدعي السؤال عن الأسباب. وهي كثيرة، بعضها يتعلّق بارتباك المثقّفين والمثقّفات عموماً، ومنهم الأدباء والأديبات والفنانون والفنانات، وتضعضعهم، وتعقّد علاقتهم بالشأن العام وتراجعها. وقد بدأ ذلك إبان الحرب. وإذ ارتبط بمراجعة الإيديولوجيات والتجارب السياسية، أفرز آراءَ وتوجّهاتٍ تنتقد استتباع الأدب والفنون للسياسة والتناول المباشر للواقع والأحداث وتمجّد التناولَ الخاصَ وغير المباشر للوجود والحياة.

وفيما يُسهم هذا البعد الثقافي التاريخي في قطع الصلة ما بين الأدب والفنون والواقع والمجتمع، هناك عوامل جديدة ناتجة من الانهيار الاقتصادي والمالي والأزمة السياسية والاجتماعية، ومن انفجار مرفأ بيروت نفسه.

فالانهيار والأزمة، وبشكل خاص الانفجار الصادم، أحداثٌ ضخمةٌ أثّرت في اللبنانيّين واللبنانيّات عموماً، ومنهم الأدباء والأديبات والفنانون والفنانات. كانت، وما زالت، بمثابة صدمات هزّت الكيانات والأنفس والوعي. وقد حصلت على أرض هشّة ومفتوحة بقدر ما هي معقّدة ومحكمة الإغلاق. فعلى المستوى العام، لبنان بلدٌ معلّقٌ مفتّتٌ يدفع يوميّاً إلى الإحباط والاعتقاد بانسداد الأفق وتبديد الحياة والعيش. وعلى المستوى الخاص، يفتقد الإنسانُ في لبنان إلى الأمان السياسي والاجتماعي والنفسي. وتولّد هذه الطبخة السحريّة، كي لا نقول الشيطانيّة، عبثاً ينال من الإنسان. ويتظهّر ذلك في السلوك المتوتّر للبنانيّين واللبنانيّات، وفي شعور فئات واسعة بضرورة انتزاع الحقوق وتأمين المصالح بالأيدي من دون ضابط هو الدولة. ولا غرابة في أن يتظهّر ذلك أيضاً في "صمت" الأدب والفنون. فالأدباء والأديبات والفنانون والفنانات، في حال مثل حالهم المرتبكة والمضعضعة، وإزاء انهيارات وأزمات وظروف وأحداث كارثية وغير آمنة، هم بمثابة مؤشّر قياس لهشاشة اللبنانيّين واللبنانيّات ويأسهم.

وعلى رغم أن ذلك يجعل "صمتهم" صادقاً، إلا أنه علامةٌ قاسيةٌ. هو خسارة. وهو استجابة لتعطيل الحياة والحقيقة والعدالة والإبداع الذي يريده المعطّلون. وهو كذلك انطفاءُ أضواءٍ في منارة.


MISS 3