نوال نصر

أثّرت به والدته أكثر مما أثّر ماركس وشكسبير

سمير عطالله: هذه كانت أولى كتابات وليد بك وهكذا تُطبخ القرارات في الأمم المتحدة

12 آب 2023

02 : 00

العمر الغني بالتجارب (تصوير رمزي الحاج)

نعرف أشياء ونجهل الكثير الكثير من الأشياء. ونظنّ أننا نعرف أشخاصاً إلى أن نتأكد أننا نعرف شيئاً وتغيب عنا أشياء. سمير عطالله، الكاتب الكبير، الذي نتابعه بشغف وهو يكتب نثراً فيه شعر كثير، يملك من العاطفة أكثر بكثير مما اكتشفه القراء فيه، وعرفوا عنه في ستين عاماً. هو صديق لكبار، وهو يعود طفلاً في كلِ مرّة شاهد فيها موجوعاً. هو كاتبٌ غاص في سبك المقالات يومياً، سبع مرات في الأسبوع الواحد وأكثر. جال في الشرق والغرب وأسس لصداقات ودخل أروقة الأمم المتحدة وكواليسها وعرف أسرار المؤتمرات والقطب المخفية وكيف تُصنع القرارات. فلندعه يُخبرنا عن كواليس العالم والمنطقة ونفسِه. إنه حوارٌ مع رجلٍ - صحافي إستثنائي.



في كل زاوية وركن في منزله في اليرزة كدسة كتب مشقوعة بترتيب ومزروعة بين منحوتات من صنع زوجته النحاتة ميّ. هو من بتدين اللقش، القرية الجميلة في قضاء جزين. ولد في بيروت في العام 1941. وجدّته أخبرته لاحقاً أنه ولد يوم طرد المفوض السامي من لبنان ( الجنرال دانتز). يوم بلغ عامه الخامس هجر والده نصري والدته مهيبة فانتقل معها الى القرية، الى بتدين اللقش، وهناك عاش تحت جناحي والدته، مع شقيقه الوحيد منير، مدة خمس سنوات، قبل أن تتوفى صبيّة بداء السرطان. تلمع عيناه وهو يخبر ذلك ويقول «لا أتذكر والدي في المنزل. لكن مَن يعيش معي حتى اللحظة، في البال والقلب، خالي بولس سلامه (الشاعر والأديب)». يكرر اسمه مرات مقروناً بكثير كثير من الفخر.



أعمق تجربة في الأمم المتحدة


بعمر العشر سنوات، في العام 1951، نزل الى بيروت مجدداً وسكن مع عماته اللواتي حاولنَ منحه الحبّ والعطف وهنّ يدركنَ مدى تعلقه بأمّه. طفولة صعبة طبعت كل حياته. ويقول «والدتي كانت من عائلة غنية، بمقياس ذاك الوقت، غير أنها عملت لإعالتنا. لمّت الصنوبر والزيتون وطرّزت. أثّرت بي والدتي كثيراً». يسكت، يأخذ نفساً عميقاً. نسأله: هل كتب الى الوالدة مهيبة بين كل ما كتبه؟ يجيب «لم أكتب إليها مباشرة لكنّ في كل كتاباتي شيئاً منها. وجودها طغى في حياتي. كانت حنونة. أثّرت بي أكثر مما أثّر ماركس وشكسبير. بنيت كل حياتي على ذلك. هذا جعل قلبي مع كل الناس ومع كل الضعفاء. لا أطيق أن أرى وجع الناس. وأتذكر أنني حين عملت رئيس تحرير مجلة «الأسبوع العربي»، وكان راتبي أعلى من راتب رئيس الجمهورية آنذاك سليمان فرنجيه بألف ليرة، حدث خلاف بين الإدارة والمحررين. يومها وقفت مع المحررين. ونتيجة ذلك مشيت. عدتُ وعملت رئيس تحرير الأنباء في الكويت وقفت أيضا مع المحررين ضدّ الإدارة ونتيجة لذلك أيضاً خسرت موقعي. وتكرر ذلك أيضاً وأيضاً في مجلة الصياد التي كنت اتقاضى فيها أعلى راتب رئيس تحرير ممكن حينها في لندن. ومنذ ذاك الحين قررت ألّا أشتغل في الإدارة بل أن اكتب مقالتي من منزلي».



الخال بولس

صعبٌ جداً، في عالمٍ مليء بالظلم، أن يكون الإنسان صاحب قلب كبير. سمير عطالله درس في مدرسة الراعي الصالح في بيروت. والسؤال البديهي هنا: ما الذي أخذه الى عالم الصحافة؟ يجيب بحسم: خالي بولس سلامه. كنت منبهراً به. وهو كان يميّزني عن الآخرين. وقال لي فارس يواكيم، منذ وقت قصير، إن خالي قال له: أرى في نثره شعراً كثيراً. هو أثّر بي من دون أن يدري. كان مقعداً ومشى في آخر سنوات حياته. نذر الى لورد وعاد يمشي بعد أربعين عاماً من عجزه عن ذلك».

كان إيمان خاله كبيراً لكنه استطاع أن يعزّز فيه الروح غير الطائفية ويقول «كنت أقرأ له، بصوتٍ عالٍ، ما كتبه والمتنبي والإمام علي خلال النهار، وعصراً كنا نقرأ الطلبة».



خاله جعله يحب القراءة والكتابة، لكن من جعله صحافياً ممارساً؟ يجيب «أتذكر أنني كتبت في باب رسائل القراء رسالة في مجلة المجالس المصورة وحين رأيت ما كتبت مطبوعاً كدت أطير من الفرح. وقال لي يومها أحد المثقفين في قريتي ممن قرأوها: تملك أسلوباً. يومها لم افهم ماذا يقصد. بعدها، صرتُ أنزل الى البيدر في بتدين اللقش ومعي دفتري وقلمي. قرأت وكتبت كثيراً عند البيدر». ويستطرد بالقول: «ولدتُ وأنا أكتب وأسافر. لم اكن أطيق أن أبقى في مكان واحد. وأول مرة سافرت فيها، بعمر العشرين الى فرنسا، إستقليتُ طائرة الشحن تي أم إي. كان في جيبي 500 ليرة لبنانية فقط. ونزلنا في إيطاليا لتعبئة الوقود. نزلت من الطائرة فرأيت مطعماً ودكانة. دخلت واشتريتُ «كارت بوستال» وبدأت أكتب حنيناً الى لبنان. لم يكن قد مضى على مغادرتي ساعات» يضحك كثيراً.



ذات يوم مع ميّ ونصري الصغير



المسافر

يرتشف قهوته. يضع رجلاً فوق رِجل. ينظر الى الأشجار التي تحوط منزله مكونة مشهدية جمالية. يشير الى موقع مطار بيروت الذي تطل شرفة منزله في اليرزه عليه ويتابع مستذكراً رحلات السفر الأولى والمعارف الأوائل والكتابات الأولى ويقول: «كنت متأثراً بأنسي الحاج. كان أكبر مني بأربعة أعوام. بقيتُ أقرأ كثيراً منذ ولدت - ربما - وحتى اللحظة. واليوم أقرأ بمتعة أكثر وبوعي أكبر وبثقافة أوسع. وأهم من كل ما قرأته هو ما قرأت عنه. هناك قراءات للمتعة وقراءات تساعدني على الكتابة. وأكثر ما أحب قراءته هو الرواية. وهناك كتابات لا تفسير لها بالعربية: Essay (المقال الأدبي). أعشقها. وتمتعت كثيراً بكتابات أوكتافيو بات (الكاتب والشاعر المكسيكي العالمي). كلما قرأته إكتشفتُ أمراً جديداً».



الكاتب

مضى عليه صحافياً أكثر من ستين عاماً ويقول: «لا اعرف أي شيء آخر أفعله غير الكتابة. وأوّل وظيفة، براتب في آخر الشهر، كانت من صحيفة الأنوار، مع سعيد فريحه. تعرفتُ عليه من خلال سليم نصار الذي أعطاني صفحة بالإنكليزية وطلب مني ترجمتها. ذهب هو الى الغداء وحين عاد بعد ساعتين سألني: هل بدأت؟ أجبته: إنتهيت. أخبر سعيد فريحه بذلك فطلبني الى مكتبه وسألني عن اسمي فأجبته: أنا ابن شقيقة بولس سلامه. كنت «شايف حالي» به. قال لي: أين تعلمت الترجمة؟ أجبته: لم أتعلّمها. دخلت بعد ذلك إلى صحيفة الأنوار براتب ثلاثمائة ليرة لبنانية شهرياً». ويضيف مبتسماً: «صاروا «يكاروا» عليّ. لكنني كنت فرحاً. لم يكن لديّ ما أفعله فأجلس وأترجم المقالات صبحاً ومساءً. وكنتُ، في نفس الوقت، أكتب الشعر في صحيفة «النهار»؛ عند أنسي (الحاج). كانت عاطفتي أقوى تجاه «النهار». ولاحقا، لم أدع أي صحيفة تعتب علي (يضحك مجدداً)».



تويني وفريحة

عمل لدى غسان تويني وسعيد فريحه. فماذا تعلم من الرجلين؟ يجيب: «كلاهما من عباقرة الزمان. وكل واحد له طريقته وأسلوبه. كان سعيد فريحه بالكاد يقرأ ويكتب. وعرفتُ لاحقاً من مذكراته التي قرأتها عشر مرات أن فتاة كتبت له رسالة لم يتمكن من قراءتها. ولاحقاً قرر أن يتعلم. صار يقف منصتاً وراء شبابيك المدارس التي تسمح له بذلك، كي يتعلم ما يُتاح له. كان فقيراً. عاد فريحه وتميّز جداً وأتذكر أنه كتب مرّة عن عصافير الحبّ love birds أفضل مما كان يكتب بلزاك. غسان تويني كان أمراً آخر. كان طليعياً ومن جامعات هارفرد وموهبة وكان عظيماً سياسياً وفكرياً وأخلاقياً. كان قلبه كبيراً. وطلب مني ثلاث مرات أن اعمل رئيس تحرير للنهار ورفضت ثلاثتها. ماطلت. وفضلت أن أظل كاتباً مستقلاً. لكن في النهاية لا يمكن أن نقول لا لغسان (تويني). وقعتُ إتفاقاً بذلك لكن حصلت أحداث حالت دون عودتي من الخارج».



أراد أن يعود سمير عطالله من لندن إلى بيروت بعد سنوات غربة. وضّب أمتعته. إتصل برئيسي المجلس والحكومة حسين الحسيني وسليم الحص. أبلغهما بعودته الوشيكة خوفاً من تبعات الأحداث الأمنية في البلاد. وجوابهما كان: إنتقل الى باريس وتعود معنا. عاد واتصل أيضا بميشال عون لسؤاله عن الوضع. كان في إجتماع وسكرتيرته أكدت أنه سيعود ويتصل به لاحقاً. إنتظر. لم يتصل عون. وفي اليوم التالي إستيقظ على خبر إعلان الجنرال حرب التحرير. وتجدد دخول لبنان في أتون النار. ولم يعد.



من لقاءاته


صداقات

بنى الكاتب علاقات صداقة... يقاطعنا بالقول: «لا، لم أبنِ صداقات. أنا لست صانع صداقات. من التقيت بهم وبنيت علاقات معهم هم من بادروني وفتحوا باب العلاقة بيني وبينهم. ربما حصل ذلك صدفة. لا أعرف» ويستطرد بالقول «فؤاد شهاب لم اعرفه لكني أحبه. أحببتُ ريمون إده على الرغم من الإختلاف بين السياستين. الياس سركيس حتى هذه اللحظة أقدّسه لأنه أحد اكثر الأشخاص نظافة ممن مروا على لبنان. أمين الجميل كان صديقي أيضا. كان يأتي الى النهار في أوائل السبعينات وتقرّب مني ونشأت صداقة بيننا. كنت أقول له رأيي كما هو وكانت زوجته (جويس الجميل) تقول لي: لا أحد سواك يقول له الأمور كما هي. وستستغربين من هو الصديق الآخر لي. إنه وليد جنبلاط. أتى الى صحيفة «النهار» في أوائل السبعينات وكنت أعمل رئيس القسم الخارجي في الصحيفة. وأتذكر أن غسان (تويني) قال له: سيكون سمير عطالله مسؤولاً عنك. وطلب منه تقديم المادة إلي. كان يفترض بمقاله أن يكون من أربع صفحات يأتي بثلاث، مكتوبة على ورق دفتر المدرسة المربع، ويقول لي سأعود إليك بآخر صفحة (يضحك كثيراً لذلك). كنت أقول له: لا تعتل هم وليد بك. يومها كان يعارض والده كمال بك في مسائل كثيرة فأقول له: معقول أنك لا تتكلم مع والدك؟ قال لي مرة: وماذا أقول له؟ إنه يكلمني بشؤون القمح. أجبته: أجِبه بالقمح إذاً. فهل من الضروري أن يكلمك حول شكسبير؟ وحين اتسعت الحرب وأصبحت ضيعتنا في حمى الدروز صار يعاملنا وليد جنبلاط كملوك. وفي الأمس كتب عني (نشر صورة تجمعهما): «الصحافي والكاتب سمير عطالله من طينة لم تعد موجودة». نبيه بري أيضا صديقي. وكان بولس سلامه يقدّس الشيعة. إلتقيت بري أول مرة في بشري، كنا مجموعة شباب ومعنا كان زميلي في النهار وفيق رمضان. وأخبرني وفيق أن نبيه قال له عني: هذا سيكون من عباقرة الزمان. بعد أربعين عاماً إلتقيت نبيه بري فسألته: دولة الرئيس هل صحيح أنك قلت عني لوفيق أنه سيكون لي مستقبل لامع؟ أجابني: لا، بالأصح قلت له ستكون من عباقرة الزمان. حافظت على علاقتي معه دائماً كما حافظت على علاقتي بوليد جنبلاط دائماً. وأتذكر أنني إلتقيتُ وليد في عشاء دعانا إليه (النائب السابق) نعمه طعمه فقلت له: لست مضطراً أن تقول لبشار الأسد يا وجه القرد. أنت زعيم الدروز ولا يجوز أن تقطع العلاقات هكذا. أجابني: أنت علمتني وتصرّ أن تبقى تعلًمني. وقلت له أيضا: ما لك وللمسيحيين لتعيدهم الى 1860؟ حصل ذلك أمام مروان حماده الذي ظل يردد: دخيلك كمّل كمّل. أجابني وليد: وهل تريد أن تربيني في السياسة؟ أجبته: لا أريد تربية أحد. أنا لا أمون في السياسة حتى على زوجتي».



بالعودة إلى الصِحافة، لم يلهث سمير عطالله يوما - على ما قال- وراء السبق الصحافي «هذا ليس من طبعي، كل السكوبات أتتني وأنا جالس. الحمدلله. كنت أول صِحافي أبلغه الملك فيصل عن دور سيلعبه في حرب اليمن. وكنت أول صِحافي حكى عن زيارة جمال عبد الناصر (المفاجِئة والتاريخية) الى السعودية العام 1965 لإجراء مصالحة بينه وبين الملك فيصل». أثمرت القمة عن اتفاقية جدة.



بنى علاقات اقليمية ودولية وثيقة




الشاب سمير عطالله


ترودو

هي الصدفة ربما التي جعلت الكاتب - الصحافي يوثّق علاقاته مع كثير من الزعماء والشخصيات المحلية والعربية والدولية ويقول «لا أعرف ما هو السبب، كل ما أعرفه انه لولا «كرمهم» (مع حرصه على وضع الكلمة بين مزدوجين) لكان قابل الملك فيصل مرة واحدة فقط وانتهى الأمر» يضيف «أرى أن الفضل في أنني أصبحت صحافياً عربياً (ولم أبق محصوراً بالصحافة اللبنانية) أنني اشتغلت في «الرأي العام» في الكويت العام 1963. ارسلتني الصحيفة لإجراء مقابلات قبل قمة الطائف وكان حظي أن أقابل الملك فيصل، ومن يومها أصبح لديّ مُطلّ عربي. وفي خلال عملي هناك تعرفت على جومو كينياتا في كينيا (قاد حزب إتحاد كينيا الأفريقي الوطني). وغطيت حدث استقلال كينيا. تعرفت أيضاً الى رئيس وزراء كندا بيير ترودو،( والد جاستن ترودو) كان احد أهم الشخصيات في تاريخ كندا. تعرفت اليه في البداية نظرياً من خلال الترجمات في القسم الخارجي في «النهار»، خصوصاً يوم ترجمت خبر إعلانه حال الطوارئ في كيبيك وطلبه الإنفصال. أعجبت به جداً. وأصبح وكأنه إبن عمتي (يضحك). أحببته كما أحببت كثيرين قبل أن ألتقيهم. مرّت الايام. نجح ولمع اسمه. لاحقاً، انتقلت الى كندا لأستقرّ فيها لكنني لم أجد عملاً. في تلك الاثناء دعتني جامعة أوتاوا، مع ثلاثة من كبار الشخصيات السياسية في الغرب، لنتكلم عن الحرب اللبنانية. وحين تكلمت قال ثلاثتهم: ما عاد ينفع ان نقول شيئاً. ويومها قال لي مدير عام الشرق الاوسط في الخارجية الكندية: ماذا تفعل في كندا اليوم؟ اجبته: لم أجد عملاً. قال لي: ماذا يمكننا أن نفعل لنعوضك ذلك؟ أجبته: أريد مقابلة مع ترودو. مرّت الايام. سافرت الى فرنسا ولم اتخيل أن المقابلة ستتحقق، الى أن أتاني إتصال قالوا لي فيه: حدّد موعد المقابلة مع رئيس الوزراء. تحقق حلم آخر لي وأصبح صديقي».



بين مؤلفاته التي تربو على العشرين، كتب عطالله كتاباً واحداً باللغة الإنكليزية عنوانه: the village years تحدث فيه عن بتدين اللقش، عن عمرٍ من عمره في البلدة. هو ما زال يكتب بقلم الحبر. علاقته شبه مقطوعة مع التكنولوجيا وعالم السوشال ميديا. إنه يكتب يومياً، سبعة أيام في الأسبوع. ماذا عن علاقته مع الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود التي يصنفها الأقوى؟ يجيب: «جمعتنا صداقة ومودة عمرها 50 عاماً. تعارفنا في باريس يوم كانت المستقبل تصدر من هناك وأنا من كتّابها. زارنا الأمير وتعرفنا واستمرت لقاءاتنا. والفضل في ذلك له». يكرر عطالله دائما ان الفضل في صداقاته الى أصدقائه فلماذا ينتظر من الآخرين دائما المبادرة؟ يجيب «لا أحب أن افرض نفسي على أحد». حتى في صداقاته العادية؟ «نعم. هذه طبيعتي». ويستطرد: «كل من قابلتهم لم أطرح عليهم أسئلة بل تركتهم يتحدثون. هم تحدثوا وأنا سمعت بانتباه شديد».



في الأمم المتحدة

ذات يوم، في العام 1973، ذهبت الى الأمم المتحدة في نيويورك لأغطى إجتماعات الجمعية العامة. يومها، أخد مجلس الأمن القرار 338 الذي هو إمتداد للقرار 242 (قراران صدرا في الأمم المتحدة عقب ما سمي يومها بالنكبة ونصّ الثاني على إنهاء حالة الحرب والإعتراف ضمنا بإسرائيل من دون ربط ذلك بحل قضية فلسطين) ويقول عطالله: «كنت أذهب سنوياً الى الأمم المتحدة». ماذا عن ملاحظاته حول كيفية إتخاذ القرارات؟ يجيب «تجربة المشاركة في الأمم المتحدة مهمة جداً لأهلِها وللصحافيين. وحدّد سفير الكويت في الأمم المتحدة عبدالله بشاره، في كتابٍ عنونه «عامان في مجلس الأمن» كيف تُطبخ القرارات وتُعدّ. وأنا راجعتُ له الكتاب فقدم لي كلمة شكر». لكن، ماذا عنه هو؟ ماذا عن ملاحظاته واستنباطاته هو؟ يجيب «كل ما يحصل يندرج في باب التسويات. وكل طرف ثابت في مكانه لا يتزحزح. وهناك شيء إسمه Filibusters في الكونغرس الأميركي ويقتضي أن يستمر الشخص بالكلام كي لا يسمح للآخرين بذلك. فيأخذ من دور غيره. وكان العرب حين يحتاجون الى «فيلي باستر» يستعينون بالمندوب السعودي الدائم لدى الأمم المتحدة آنذاك جميل البارودي الذي كان يظلّ يتكلم حتى لا يفسح مجال الكلام أمام المندوب الإسرائيلي (يضحك عطالله ). الى ذلك، كانت التسويات تجري بين الروس والأميركيين والفرنسيين وأدركتُ هناك أنه أهم ناد للتعارف الدبلوماسي والصحافي. هناك إكتشفت العالم العربي من دون أن ازوره. كنت أراه هناك».



ستون عاماً مضت على امتهان سمير عطالله الصحافة والكتابة. ومضت 36 عاماً وهو يكتب مقالاً يومياً، سبعة أيام في الأسبوع، في صحيفة «الشرق الأوسط». وهذا ما نصفه نحن بالتحدي أما هو فيقول عنه: it’s a homework. يضيف «باتت الكتابة تتعبني أحياناً خصوصا بعدما كتبت في كلِ شيء. وأكثر من أحببت الكتابة فيه هي الرواية. كان الأستاذ غسان (تويني) يقول لنا: ليس هناك كاتب بل موضوع يفرض نفسه».



عاشق الكتابة عاشق للسفر أيضا ويقول «السفر يعزز المخزون الفكري. أحببته دائماً، لكني قررت أن أخفف وتيرة أسفاري في الفترة الأخيرة. أتحمس لمشاريع ثم أتذكر أن عمري 82 عاماً». صعبٌ على الكاتب أحيانا أن يقول: هذا أجمل ما كتبت. لكن، أكثر ما أحبه غسان تويني وفرانسوا أبي عقل في كتابات عطالله كان التحقيق الذي أجراه من إيرلندا، يوم تعقب ديغول الى هناك. لم يره لكنه كتب تحقيقاً حول ذلك ويقول: «أندم اليوم أنني لم أكن واعياً في حينها الى أهمية العمل الميداني. واليوم أنا متأثر كثيراً بالصحافي البولندي ريتشارد كابوشنسكي (غطى عشرات الحروب في الدول النامية بأسلوب مختلف). أعتبره أفضل مراسل في التاريخ. أندم لأنني لم أتعرف اليه ولم أقلده».



هل هناك صداقات حقيقية في عالم مهنة الكتابة والصحافة والإعلام؟ من يزور اليوم سمير عطالله؟ يجيب «كلنا كبرنا. لا أزور أحداً. ألتقي فرانسوا أبي عقل وفؤاد مطر ونشرب القهوة معاً. هناك صديقي وحبيبي وأخي تمام سلام أراه أيضا».






مع زوجته ميّ



العائلة

في الكويت، بعد مضي 12 عاما على زواجه من ميّ سلامه، أصبح عطالله أباً. وسمى ابنه نصري على إسم والده. لماذا نصري وهو لم يعش مع والده كما كان يتمنى؟ يجيب: «الغفران قوّة». نصري سمير عطالله يكتب اليوم باللغة الإنكليزية في أهم الوسائل الإعلامية. أصبحا زميلين. أنجب عطالله أيضا فتاة سماها ماريا هي تكتب أيضا لكن باللغة الفرنسية. وقريباً جداً سيصبح جدّاً. ولده نصري ينتظر طفلاً. فهل ننتظر أن يولد سمير عطالله الحفيد قريباً؟ يجيب «لا، لا أريد أن يرث حفيدي إسمي. فليسمِ نصري ما يحب. وأعترف أنني البارحة، بينما كنا نتحدث، قلت له: ما رأيك باسم أوكتاف لطفلك؟ اردتُ أن أفهِمه أنني لا أهتم بأن يحمل حفيدي إسمي».

لا يخرج عطالله كثيراً من منزله لكن لا وقت فراغ في روزنامته. الكتابة نظام حياته. يقرأ صبحاً وظهراً ومساء وما بينها. نادراً ما يشاهد التلفاز. ويسمع فيروز ومغرم بسيارات الجاكوار «أنظر إليها كمن ينظر الى امرأة». ميّ هي إمرأة حياته «إنها حالة محبّة يعيشها منذ 55 عاماً. هي من صنعت بيتاً يجمعنا نحن الأربعة، هي وأنا وماريا ونصري، وبنيانه الحبّ والإدارة والرقيّ والتضحية. لم توقف يوماً عند المسائل الصغيرة».

قبل أن نخرج نسأله أن يكتب خلاصة تجربة. يمسك ورقة وقلم. ينظر في التفاصيل. ينظر الى نحو تتسلل الشمس والضوء ويكتب: الحياة كتابة وقراءة وامرأة.




رسالته



عمر وتفاصيل وتجارب




MISS 3