الاستهلاك الجماعي سبب مصائب العالم!

05 : 00

تتوقف فعالية تدابير الوقاية من أي أوبئة مستقبلية على رأينا بمصدرها. تنتشر اليوم فكرة شائعة مفادها أن الأوبئة ظاهرة غامضة وغير متوقعة، فتشبه بذلك الكوارث الطبيعية والأعمال الإرهابية. في هذه الحالة، أقصى ما يستطيع المجتمع فعله هو تمني حصول الأفضل والاستعداد للأسوأ. يوصي بيل غيتس بإجراء الأبحاث وتطوير اللقاحات وتعبئة الجنود والعاملين في القطاع الطبي. ويقترح مستشار الدفاع البيولوجي السابق في البيت الأبيض، راجيف فانكايا، فرض حظر دائم على تجارة الحيوانات البرية وتحسين جهود مراقبة الأمراض. أما إليزابيث وارن، السيناتورة الديموقراطية عن ولاية "ماساتشوستس"، فتدعو إلى زيادة تمويل الوكالات الصحية الحكومية.

تصبح مجموعة واسعة من المقاربات الأكثر فعالية واستدامة ممكنة عند فهم الأوبئة من زاوية مختلفة، فهي ليست مصائب عشوائية انما هي أحداث متوقعة يزيد احتمال وقوعها بسبب سلوك البشر. بعبارة أخرى، يستطيع البشر أن يكثفوا جهودهم لمنع الأوبئة، فيخفّضون بذلك احتمال تفشي مسببات الأمراض داخل أجسامنا في المقام الأول ويقلّصون احتمال انتشارها على نطاق أوسع. لكن تتطلب هذه الخطة إعادة هيكلة شاملة للاقتصاد العالمي وتعديل أسلوب الحياة المعاصر الذي يرتكز على تسارع استهلاك الموارد الطبيعية.

دور الحيوانات البرية

منذ العام 1940، أدت مئات مسببات الأمراض الجديدة إلى تفشي الأوبئة حول العالم، ويشتق معظمها من أجسام الحيوانات. يُعتبر فيروس كورونا الجديد أحدث عامل مَرَضي بكل بساطة ولن يكون الأخير على الأرجح. كان التوسع الصناعي نتيجة الاستهلاك الجماعي كفيلاً بنشوء عدد كبير من مسببات الأمراض الحديثة. يزيد التصنيع احتمال أن تشقّ الميكروبات الحيوانية طريقها نحو أجسام البشر عبر منحها فرصة الانتشار في المدن المتنامية وتسهيل انتقالها إلى أكثر الجماعات هشاشة حول العالم.

تصبح الميكروبات أداة لنقل الأمراض حين تنجح في استعمار بيئات جديدة، فتقتات على أنسجة الأجسام المضيفة قبل نشوء استجابة مناعية مستهدفة. أما أنجح الميكروبات في استعمار أجسام البشر، فهي تلك التي تعيش داخل أجسام الحيوانات، لا سيما الثدييات الأخرى، مثل الخفافيش والخنازير والطيور، إذ لطالما شكّلت هذه الحيوانات مخزناً لمسببات الأمراض البشرية على مر آلاف السنين.

تاريخياً، توغلت الميكروبات الحيوانية بوتيرة بطيئة داخل جسم الإنسان. كي ينتقل الميكروب الحيواني من البيئة المضيفة البرية إلى البشر، يجب أن تحتك الفصيلتان بطريقة مقرّبة ومطوّلة. ولانتشار الوباء على نطاق واسع، يجب أن يصل ذلك الميكروب إلى أعداد كافية من البيئات البشرية المضيفة عبر الانتقال إلى جماعات واسعة وبعيدة. في عالم ما قبل الحقبة الصناعية، كانت هذه الفرص نادرة. ومنذ مئات السنين فقط، كانت الغابات والأراضي الرطبة تطغى على العالم. في المقابل، بقيت مراكز المدن قليلة وكان النقل بينها بطيئاً وغير جدير بالثقة. وفق تقديرات دراسة من العام 2010، كانت معظم مساحات سطح الكوكب برية أو شبه برية في العام 1700. وبسبب هذه الظروف، بقي احتمال تحوّل الميكروبات الحيوانية إلى مسببات أمراض بشرية وعوامل لانتشار الأوبئة ضئيلاً نسبياً.

لكن مع توسّع النشاطات الصناعية، تغير المشهد الطبيعي بطريقة جذرية. اليوم، تطغى المستوطنات والنشاطات البشرية على أكثر من نصف أراضي العالم. ولا يزال أقل من ربع المناظر الطبيعية العالمية برياً. هذا التراجع الحاد في المساكن الطبيعية يجبر الأجناس المتبقية على التجمّع في مساحات أقرب من البلدات والمدن والمزارع والمناجم، ما يزيد احتمال أن تحتك الميكروبات الحيوانية بجسم الإنسان. وحين تصل تلك الميكروبات إلى البشر، يسهل أن تنتشر حول العالم عن طريق القطارات السريعة والشاحنات والسفن والطائرات، أي أنظمة النقل التي صمّمها البشر لنقل السلع والبضائع إلى جميع زوايا العالم. أطلقت هيمنة الصناعة على كوكب الأرض مساراً واسعاً لتحويل الميكروبات الحيوانية إلى مسببات أمراض بشرية.

كان الاستهلاك البشري، لا النمو السكاني، الدافع وراء تلك التغيرات في طريقة استخدام الأراضي. في آخر 50 سنة، تضاعف عدد السكان لكن زاد استهلاك الموارد الطبيعية بثلاثة أضعاف. تقليدياً، يستهلك المقيمون في البلدان الصناعية ذات الدخل المرتفع أكبر نسبة من الموارد الطبيعية في العالم. ورغم جهود إعادة التدوير وزيادة فعالية الإنتاج، يكون استهلاك تلك الجماعات السكانية أعلى من استهلاك المقيمين في البلدان ذات الدخل المنخفض بأكثر من 13 مرة. منذ العام 2000، أصبح السكان في البلدان ذات الدخل المتوسط، مثل الصين والهند، من كبار المستهلكين أيضاً بسبب ارتفاع مداخيل الأُسَر هناك. وبدل الاتكال على المواد الأساسية المشتقة من مصادر محلية والأغذية المُصنّعة بالحد الأدنى، تشتري الأُسَر الميسورة كميات إضافية من المنتجات الحيوانية التي يحتاج إنتاجها إلى الأراضي أكثر من الأغذية النباتية بنسبة 76% مقابل كل سعرة حرارية مستهلكة. يؤثر قطاع إنتاج هذه المواد كثيفة الموارد وتصنيعها ونقلها على عدد إضافي من مساكن الحيوانات البرية ويزيد احتمال انتقال مسببات الأمراض من الحـيوانات إلى البشر.

تلبّي البلدان النامية الاستوائية المسؤولة عن توفير المنتجات الفاخرة التي تطلبها الطبقة الوسطى الناشئة، مثل القهوة والشاي والكاكاو، حوالى ربع الطلب العالمي على الموارد الطبيعية. تتمتع هذه البلدان بالتنوع البيولوجي أكثر من المناطق المعتدلة، لكن تتراجع فيها تدابير مراقبة الأمراض وأنظمة الرعاية الصحية القادرة على رصد الأوبئة واحتوائها. ليس مفاجئاً إذاً أن يصل اثنان من أقوى الأوبئة (الكوليرا وفيروس نقص المناعة البشرية) في حقبة التوسع الاستعماري إلى المناطق الاستوائية. اشتقت الكوليرا من انتشار زراعة الرز في الأراضي الرطبة في بنغلادش في خلال القرن التاسع عشر. أما فيروس نقص المناعة البشرية، فنشأ بعدما توسّعت مدينة "ليوبولدفيل" ووصلت إلى أدغال الكونغو البلجيكية في بداية القرن العشرين.

أدت هذه البصمة الصناعية المتوسّعة إلى تسريع تدفق مسببات الأمراض ووصولها إلى مساحات جديدة حول العالم. في إفريقيا الوسطى، كان انتشار ظاهرة صيد لحوم الطرائد المرتبطة بِشحّ الأسماك المحلية نتيجة الصيد الجائر من جانب الصين وبلدان الاتحاد الأوروبي مسؤولاً عن تفشي جدري القرود (فيروس شبيه بالجدري العادي) وانتقاله من القوارض إلى البشر. في الصين، أدى ازدهار الطبقة الوسطى إلى زيادة الطلب على مأكولات فاخرة تتألف بشكلٍ أساسي من حيوانات برية نادرة وغريبة. نتيجةً لذلك، توسّعت أسواق الحيوانات الحية (أو "الرطبة") حيث تُباع تلك المنتجات. سهّلت هذه الأسواق الرطبة ظهور فيروس كورونا من نوع متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد ("سارس") لدى الخفافيش وقطط الزباد والبشر في العام 2002، وحتى فيروس كورونا الجديد في العام 2019 وفق توقعات البعض. وفي جنوب شرق آسيا، أدى ارتفاع المداخيل إلى زيادة استهلاك لحم الخنزير وتنامي مزارع الخنازير. وكان توسّع مزارع الخنازير في ماليزيا كفيلاً بتسريع انتقال فيروس "نيباه" من الخفافيش إلى الخنازير ثم البشر في العام 1998. كذلك، أدى توسّع مزارع الخنازير في الصين إلى ظهور أشكال مُعدية جداً من فيروسات إنفلونزا الطيور ومسببات الأمراض المقاومة للمضادات الحيوية.

البشر ليسوا الضحايا الوحيدين لمسببات الأمراض الجديدة في ظل تلاشي الحدود بين المساكن الطبيعية. ينقل البشر أيضاً مسببات الأمراض إلى الحيوانات. منذ أواخر التسعينات، ظهرت فطريات "باتراشوشيتريوم داندروباتيديس" التي نشرها البشر على الأرجح وقضت على البرمائيات حول العالم. كذلك، نقل هواة استكشاف المغاور وغيرهم من زوار الكهوف متلازمة الأنف الأبيض إلى الخفافيش في أميركا الشمالية، فنفق الملايين منها بسبب المرض الفطري منذ العام 2007. وفي العام 2014، قضت سلالة مُعدية جداً من إنفلونزا الطيور (ظهرت في مزارع آسيوية مزدهرة) على الدواجن في أميركا الشمالية، ما أطلق أسوأ وباء حيواني في تاريخ الولايات المتحدة وفق تصنيف وزارة الزراعة الأميركية.

نحو سياسات صديقة للبيئة

طوال سنوات، أدت زيادة شهية البشر وتنامي التصنيع إلى إطلاق موجات ثابتة من مسببات الأمراض، بدءاً من الكوليرا وإيبولا وصولاً إلى "سارس" وفيروس كورونا الجديد. لمنع ظهور هذه العوامل وانتشارها منذ البداية، لا بد من كبح دوافعها الكامنة. يصبح الاستهلاك الجماعي مستحيلاً من دون الوقود الأحفوري العالمي الذي يشغّل الآلات المسؤولة عن قطع أشجار الغابات، ويوفر الأسمدة البترولية للمزارع الصناعية، ويزوّد الطائرات التي تنقل مسببات الأمراض حول العالم بالوقود، تزامناً مع زيادة سماكة طبقة الكربون في الغلاف الجوي. بالتالي، لا يمكن تجنب الوباء المقبل من دون تطبيق سياسات صديقة للبيئة.

حتى اليوم، لم يكن تفاقم تداعيات الأزمة المناخية ولا انقراض آلاف الأجناس بسبب تدمير المساكن الطبيعية كافياً لإقناع القادة السياسيين بتبني سياسة مستدامة لاستهلاك الطاقة والمصادر الطبيعية الأخرى. لكنهم قد يقتنعون بأهمية هذه الخطوة أخيراً أمام مشهد المقابر الجماعية التي تُحفَر اليوم لدفن ضحايا فيروس "كوفيد-19" والانهيار الاقتصادي الذي يواجهه عشرات ملايين الناس ممن خسروا سبل عيشهم نتيجة تدابير الإقفال التام في مختلف البلدان. في هذه الحالة، قد يشكّل "كوفيد - 19" فرصة استثنائية لإحداث تعديلات جذرية في أسلوب حياتنا وإنقاذ حياة الناس ومعيشتهم وحماية الحيوانات البرية والأنظمة البيئية المشتركة بين مختلف الأجناس على وجه الأرض.