رامي الرّيس

الدعوات إلى التقسيم هي دعوات للإنتحار!

17 آب 2023

02 : 00

نغمة التقسيم التي ارتفعت وتيرتها بشكل كبير بعد حادثة الكحالة لا تعدو كونها هروباً إلى الأمام، وهي بمثابة وصفة جاهزة لجرّ البلاد نحو المجهول الذي لن يكون وردياً بطبيعة الحال على العكس تماماً ممّا يسوّقه من يؤيّدون هذا الطرح.

ليست مسألة تفصيليّة طبعاً أن تتكثّف الدعوات السياسيّة (والشعبيّة في بعض الأحيان) إلى التقسيم. وليس تفصيلاً بسيطاً في الحياة الوطنيّة المشتركة بين اللبنانيين (المفترضة) بعد مرور مئة سنة على قيام لبنان الكبير أن تتصدّر هذه الدعوات وسائل الإعلام والشاشات والصحف.

كما أنّه ليس تفصيلاً أن يكون لبنان قد تجاوز فخ التقسيم في أوج حقبة الحرب الأهليّة التي استمرّت زهاء 15 عاماً وأن يعود الطرح لـ»يزدهر» في حقبة السلم بعيداً عن أزيز الرصاص ودويّ المدافع.

حتى «التقسيم» الميداني الذي خبره اللبنانيون أثناء الحرب عندما انشطرت العاصمة إلى قسميها الشرقي والغربي وصارت كل منطقة من المناطق اللبنانيّة خاضعة لنفوذ القوى السياسيّة المختلفة؛ حتى هذا التقسيم لم يُكرّس على الورق أو في المواثيق وجاء اتفاق الطائف ليوحّد الأرض ويؤكّد بسط سلطة الدولة على أراضيها.

إذا كانت الصيغة السياسيّة الحالية يُنظر إليها من البعض على أنها أفقدته مراكز نفوذ وقوّة، فهذا لا يبرّر المناداة بالتقسيم. وإذا كان البعض الآخر لا يتقبّل فكرة أنّ قوّته قابلة للتمدّد على كل مكوّنات المجتمع رغم تخطيها الحدود في العديد من الحالات فهذا أيضاً لا يبرّر الدعوة إلى التقسيم.

ليست الصيغة التي أرساها اتفاق الطائف مثاليّة بطبيعة الحال، وليست الممارسة التي تلت إقرار الاتفاق مثاليّة هي أيضاً للعديد من الأسباب ليس أقلّها حتماً الوصاية السوريّة التي شوّهت فلسفة الاتفاق وروحيّته وضربته في الصميم لتحقيق مصالحها حصراً. ولكن مع كل ذلك، ليس هناك ما يُبرّر فعلاً أن تعلو الأصوات التي تروّج للتقسيم.

التقسيم هو، في الصميم، مشروع حرب دائمة بين الكانتونات المفترضة، وهو يتقاطع في مساوئه مع الطروحات الفدراليّة التي انتعشت بدورها في الأشهر الماضية، والتي لا تتلاءم قطعاً مع الصيغة اللبنانيّة بتعدديّتها وتنوّعها وعناصر تكوينها الطائفيّة والمذهبيّة. الفدراليّة هي تقسيم مقنّع وهي أيضاً وصفة حرب جاهزة.

من دون توجيه الاتهام لكل أولئك الذين يطرحون هذه الطروحات المريضة والخطيرة بتهمة العمالة لأن هذا الاتهام سفيه وتافه ولا يليق بالشركاء في الوطن عدا عن كونه أداة لا تتوانى عن استخدامها بسفالة بعض الجهات التابعة للمحور المسمّى محور الممانعة لتحقيق مصالحها ورفضاً للرأي المغاير؛ ولكن- في العمق- المشروع التقسيمي هو حلم إسرائيلي قديم ويصبّ في مصلحتها مباشرة.

ليس القول في هذه العجالة إنّ من يطرحون هذا الطرح هم عملاء، ولكن- عن وعي أو لاوعي- مشروعهم يفيد إسرائيل التي تمقت التجربة التعدديّة اللبنانيّة التي تقف على طرفي نقيض مع تجربتها الأحاديّة والعنصريّة والاستعماريّة.

لبنان لا يحتمل مغامرات التقسيم، والفدراليّة لا تناسب تركيبته حتى ولو حقّقت نجاحات في دول أخرى، فثمة عوامل عديدة يستوجبها النظام الفدراليّ لكي ينجح، وهي غير متوفّرة في لبنان.

الحاجة لبناء خطة دفاعيّة لم تعد تحتمل التأجيل. الحاجة لقيام الدولة لم تعد تحتمل التأجيل أيضاً. المزج بين الدولة والدويلة لم يعد مقبولاً وصار يولّد توترات متنقلة بين المناطق المختلفة. ولكن، هل يبرّر كل هذا، على فداحته، الدعوة إلى التقسيم؟

في لحظات التوتّر، فتّشوا عن أصوات العقل والحكمة، ولا تستمعوا إلى أصوات الحقد والكراهية والبغضاء، وإلا سوف تكون العواقب وخيمة.


MISS 3