نديم البستاني

بين "حزب الله" والفدرالية: المستوى السياسي (2)

18 نيسان 2024

02 : 00

على المستوى السياسي يتجلى أنّ «حزب الله» هو الوريث الأكثر جدارة لخط الحركة الوطنية، التي قامت على عقد مصير لبنان بالصراع العربي الإسرائيلي وحللت العمل المسلح خارج نطاق الدولة ووضعت السيادة في المقام الثاني بعد القضية الفلسطينية وسائر القضايا العربية من دون التورع عن الإرتباط العضوي مع المرجعيات الخارجية لاستمداد المال والسلاح والمقاتلين.

ومن هنا مبعث التنغص من شعار لبنان أولاً الذي كان بشير الجميل ينادي فيه، وقد اقتبسه في ما بعد «تيار المستقبل» بزعامة سعد الحريري. اذ إنّ «حزب الله» حريص على لف جانبيه بمنظّري اليسار السياسي، كيف لا وأغلب قادته والجو العام لجمهوره قد تربى على خطب علي شريعتي المسجلة على الكاسيت وهو قد أسس لمفهوم الإسلام الماركسي حيث كانت الإشتراكية الثورية الإسلامية هي التي تحكم شوارع طهران عقب الأشهر الأولى لنجاح الثورة، وقد تبلورت ضمن فرق البسدران والباسيج.

كما أنّ خطاب «حزب الله» متفق مع اليسار السياسي العربي على معاداة الغرب وعلى إرجاع كل مشاكل المنطقة للسياسات الإستعمارية، وبوجوب الدفع نحو إعادة توحيد ما تم تفتيته من المنطقة أملاً باستعادة نهضة العرب والمسلمين، وإذ به يعلن من فوق رؤوس الأشهاد مناقضته للتقسيم ويضع الفدرالية في الخانة نفسها، ويعتبرها في المسار العكسي لإقامة الوحدة العربية وإزالة الحواجز الإصطناعية بين الدول العربية والأمة الإسلامية عموماً. ولا بل إن الفدرلة بحسب هذه المدرسة هي إعادة صحوة المشاريع الفئوية واستنهاض النعرات الطائفية واستبطان تجزئة المجزأ، ما يحقق أكبر تبرير للمشروع الصهيوني الذي يتوخى تقسيم المنطقة العربية إلى دويلات طائفية بغية خلق الذريعة لعنصرية الدولة اليهودية، تسويغاً لكينونتها القائمة على فعل الإستيلاء على الأراضي العربية.

الإلتقاء في سرداب الدولة المدنية

أما الخلاف حول العمق الديني فتم وضعه جانباً في مقابل إعطاء الأولوية للقضايا التحررية للمنطقة ومعاداة الغرب وإسرائيل، وقد تم عقد الصفقة على أن تكون نقطة الإلتقاء هي في سرداب الدولة المدنية التي تختزل في جوهرها فكرة إلغاء الطائفية السياسية، وهكذا يتم تحرير الفرد من قيود المؤسسات الدينية الرديفة (أي السلطات الكنسية) التي تحول بينه وبين الدولة فيكتمل تطور المجتمع نحو مفهوم المواطنية الكاملة، فتستتب الديموقراطية على أساس الأكثرية العددية بعد إزالة الفوارق بين الناس وانعتاق الفرد من الهويات الطائفية الإصطناعية التي تبقيه عالقاً في العصر الإقطاعي ما قبل قبل الثوري. فلا يخفى على المتابع رسوخ «حزب الله» على نهج شيطنة الفيدرالية وربطها بالتقسيم وبالمشروع الصهيوني، في مقابل مواظبته على الإجهار بضرورة إلغاء الطائفية السياسية، ونعتها بالطائفية البغيضة مشياً على التعابير التي وضعها الإمام الصدر، فيتعمد إرجاع كل مشكلات لبنان إلى النظام الطائفي مرتع كل خلل وفساد وارتهان للخارج.

بعض المواقف الثابتة

رضوخاً لفرائض الأمانة وقطعاً للشك باليقين بالنسبة لموقف «حزب الله» من الفدرالية، وحرصاً على إنطاق الفكر السياسي بلسان قادته، نستشهد بما قاله قادة «حزب الله» وأهله وبموقفهم الثابت من الطرح، كما يلي:

إذ بتاريخ 22/9/2006 صرّح الأمين العام حسن نصرالله «ان أي كلام في لبنان يتحدث عن التقسيم هو كلام إسرائيلي. وان أي كلام في لبنان يتحدث عن الفيدرالية هو كلام إسرائيلي. وإن أي كلام في لبنان يتحدث عن كانتونات هو كلام إسرائيلي. نحن اللبنانيين قدرنا وقرارنا ومصيرنا ومشيئة ربنا أن نعيش معاً وسوياً في دولة واحدة، نرفض أن تقسم وأن تجزأ ونرفض أن «تفدرل» وأن «تكنتن».

ثم بتاريخ 15/5/2009 صرح «إننا نتطلع إلى لبنان أرضاً واحدة، وإلى وحدة الأرض والشعب والدولة وسنقاوم أي فكرة عن تقسيم لبنان قد تخطر في بال أحد». وأشار إلى أنّ «هناك حلم للتقسيم يدغدغ عقول بعض الجهات السياسية في لبنان ويخطط للوصول إليها وأتكلم هنا عن الفدرالية»، معتبراً أنّه «لن يكون للفدرالية مكان في لبنان، وهو لا يتحمل أي صيغة من صيغها التي لا نرى فيها أي من خطوات التقسيم».

ثم بتاريخ 1/6/2012 صرّح «لبنان هذا لا يتحمل تقسيماً ولا يتحمل فدرلة. لبنان هذا، مستقبله هو مستقبل واحد، وليبقى واحداً، ليواجه كل أزماته ويحقق كل طموحات أو أغلب طموحات الشعب اللبناني، الحل هو في دولة وطنية حقيقية قوية فاعلة عادلة محترمة، يحكم فيها القانون وليس العصبيات وليس المزاج الشخصي».

وأما آخر موقف لنصرالله من الفدرالية فكان بتاريخ 8/4/2023 حيث قال «يجب على الناس أن تعيش مع بعضها فالبلد لا يتحمل فدرالية أو تقسيماً والتجربة التاريخية تقول ذلك».

ولا بدّ من التيقن أن هذه الحالة ليست محصورة بخطب الأمين العام لـ»حزب الله» بشكل منفصل عن باقي فروع «الحزب» الأخرى وسائر أدوات صناعة الوعي السياسي والتعبئة العقائدية، إذ يمكننا متابعة الشيخ نعيم قاسم وهو يقول بتاريخ 18 حزيران 2020 «(نحن) لسنا مع الفدرالية ولا مع الكونفدرالية ولكن نحن مع تطبيق الدستور وفقاً للقوانين المرعيّة الإجراء».

وأما الشيخ علي دعموش فأعلن بتاريخ 14/7/2023 «ما يزيد من تفاقم الاوضاع الداخلية أنّ هناك احزاباً وجهات لبنانية تعمل على تعميق الانقسام الاسلامي المسيحي في البلد لتكرس مفاهيم الانفصال والتقسيم والفدرالية بين اللبنانيين وللقول للمسيحيين إنّه لا امكانية للعيش المشترك مع المسلمين. هذه المحاولات خطيرة جداً».

وحتى ان المؤسسات الدينية الشيعية والتي تأخذ على عاتقها إسباغ الموقف السياسي لـ»حزب الله» بالختم الرسمي للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، فتخرج النظرة إليه بأنه مجرد موقف حزب، على أهميته، فتضعه في مصاف التعبير الأعم عن الطائفة بأكملها وبما تمثله في تركيبة النظام، قد ورد على لسان أبرز قادتها وهو المفتي الجعفري الممتاز السيد علي محمد فضل الله بتاريخ 13/7/2015 ما نصّه «لن نستطيع أن نواجه الفتنة والمنطق الدموي الزاحف إلينا بواقع سياسي مترهّل وغير متضامن، أو بطروحات الانغلاق، أو الفدرالية، وغيرها من الطروحات التي تعمّق حالة الانقسام التي جربناها سابقاً، ورأينا تداعياتها على الوطن».

النسبية في دائرة إنتخابية واحدة

إن الطرح الدائم لـ»حزب الله» هو قانون للإنتخابات على أساس النسبية واعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة خارج القيد الطائفي مع خفض سن الإقتراع الى ثمانية عشر عاماً، وحسبه في ذلك السيطرة على حكم الدولة بمزيد من الأريحية من خلال الأغلبية العددية التي يحوزها. كما أنه كان من طلائع دعاة إعطاء المرأة الحق بمنح الجنسية لأولادها أسوة بما يحق للرجل بحسب قانون الجنسية الحالي، متقاطعاً في ذلك مع الحركات النسوية وسائر التنظيمات اليسارية. إلا أن غائيته في ذلك ليس شدواً للمساواة بين الجنسين كما ينساق إليه الأبرياء من العوام أو نشطاء الحراكات الإجتماعية الناغلين في عوالم الجمعيات بين مكتب وساحة واستراحة قهوة في ورشة عمل، بل الإيغال في ضرب الموازين الديمغرافية فتنتفي ركائز التعددية.

وهو لم يتوان في كل مرة كانت تجري فيها الإنتخابات النيابية عن المغالاة بامتلاكه الأغلبية العددية بغية اختلاق الذريعة لفرض إرادته على الحكومة وتحصيل مكاسب إضافية في سائر إدارات الدولة. لقد نجح «حزب الله» في إكمال النهج السياسي الذي مارسته سوريا إبنة عقيدة البعث، فتم إبدال القومية العربية بالأمة الإسلامية المؤمنة بولاية الفقيه، والنظريتان إيديولوجيتان مطلقتان تنطلقان من قاعدة التفوق والسيطرة ورفض المساواة، وتتبعان للعقائد الشمولية الإقصائية، فتجانبان العداء لفلسفة التعددية، حيث تتفقان في رفض القبول بتعدد مصادر الحقيقة ولا تعترفان إلا بالهوية الواحدة للشعب وتمنعان أية حقوق سياسية مرتكزة على أساس الإقرار بخصوصية الجماعات المختلفة، وتعنيان بتنظيم كافة شؤون الحياة والإقتصاد والسياسة والفن بشكل مغلق بحيث أن أية نظرة حضارية أو ثقافية مغايرة هي بمثابة البلبلة والشقاق والإفساد في المجتمع.

(*) محامٍ وباحث في مجال حقوق الإنسان والفدرالية

MISS 3