حسان الزين

تجربة حرب الجبل جعلتني أكتب الرواية بعدما كنت أنشر الشعر

زياد كاج: الحياة الثقافية في لبنان أصبحت مرآة للسياسة

19 آب 2023

02 : 00

لزياد كاج أسلوب خاص في كتابة الرواية. فإضافة إلى البساطة في اللغة والسرد، يدفع بكل ما عاشه ورآه وسمعه واختزنته ذاكرته إلى النص، بصراحة وشفافية. ما يجعل رواياته أقرب إلى التأريخ المتحرر من قواعد هذا العلم ومعاييره وتقاليده. لكنّها تبقى أعمالاً أدبية. وقد عمل كاج في الصحافة باللغة الإنكليزية في بيروت التي اختارته، كما يعتقد، للكتابة عنها. وإلى جانب كتابته الرواية، بعدما بدأ شاعراً، يواظب على الترجمة. وبات في رصيده مجموعتان شعريّتان، وتسعة كتب بين النثر والرواية: «أولاد الناطور السابق»، «الحياة كما قدمت لهم»، «رأس بيروت، نار على تلة، صندوق في بحر»، «أمر فظيع يحصل: مجزرة صبرا وشاتيلا»، «سحلب»، «محمود مكاري يتذكر»، «ليالي دير القمر»، «مونداي مورنينغ»، و»بناية TV TAXI».

كتاباتك تجمع الرواية إلى التوثيق والتأريخ، لماذا اخترت هذا النوع؟

الحقيقة أنني أكتب رواية واقعية تمتزج بالخيال. أكتب الرواية التي عشتها وشهدتها. الموضوع لم اختره أنا بقدر ما أعتقد أنه هو اختارني. موضوع قدري. وبدأت بالشعر وأصدرت المجموعة الأولى «كان عليك أن تقلب السلّم»، ثم مجموعة ثانية «أنا لا أحبك أميركا»، ثم انتقلت إلى النثر، وكتبت ما يشبه الرواية، وحمل عنوان «أولاد الناطور السابق».



زياد كاج: هناك تطييف للجماعات الثقافية في لبنان


وكيف وصلت إلى كتابة الرواية؟

أنا في الأساس من الأشخاص الذين يقرأون كثيراً ويلاحظون كثيراً، وعشت الحرب وما قبلها في منطقة رأس بيروت، وشهدت المرحلة التي كان فيها انقسام بيروت، غربية وشرقية، وتهجّرت أنا وأسرتي خلال الاجتياح الإسرائيلي في صيف 1982 إلى الجبل. هناك، في ضيعة المنصورية قرب بحمدون، بدأت ألاحظ لعبة الإسرائيليين بين المسيحيين والدروز، كون سكان ضيعة أمي من الأرثوذكس وسكان الضيعة المجاورة بتاتر من الطائفة الدرزية. كانت الأجواء متوترة تشي بحصول حرب. ولاحقاً، عندما اندلعت حرب الجبل، تهجر أهل الضيعة، ومنهم أسرة خالتي التي لا علاقة لها بالسياسة، إلى دير القمر ثم إلى أنطلياس. آنذاك اتخذت قرار كتابة رواية «ليالي دير القمر». هذا هو السياق. فبالنسبة إلى شخص يراقب الأحداث، يحللها، ويقرأها بشكل أدبي وموضوعي وإنساني، يغدو مثل هذا الواقع دافعاً ذاتياً للكتابة وتسجيل ما يراه وإحساسه ووجهة نظره أيضاً.

وهذا التوجه تكرر معي في العديد من أعمالي الروائية، مثل «الحياة كما قدمت لهم» وهي تحكي عن زواجي وانتقالي للعيش والاستقرار من رأس بيروت إلى منطقة برج البراجنة، وتجربتي للعيش في بيئة إلى حدٍّ ما شعبية، مع ما يرافق ذلك من تغيير في العادات والتقاليد وغيرها. ثم لاحقاً كتبت عن رأس بيروت، وألّفت كتاباً أسميته «أمرٌ فظيعٌ يحصل»، وهو كان عن تجرتبي كمتطوع في الدفاع المدني خلال الاجتياح الإسرائيلي في ما عرف يومها بمجزرة صبرا وشاتيلا. وحتى آخر رواية، «بناية TV Taxi»، تؤرخ أيضاً لبناية وناس من مختلف الطوائف والملل، كيف عاشوا معاً جيراناً متحابين متآخين في فترة معينة قبل الحرب وبعدها.




هل أنت مؤرّخ بثوب روائي، أو روائي يؤرخ ويوثّق؟

كلا، أنا لست مؤرخاً. أعتبر نفسي روائياً، أكتب بأسلوبي الخاص السهل القريب من القارئ. صحيح أنني في معظم رواياتي تطرقت إلى مواضيع تاريخية حصلت بالفعل، أحداث وحروب وأمور أخرى، وعبّرت عن وجهة نظري، ولكنني لا أدعي التأريخ. فهو علم له أربابه وناسه، وهم يجرون أبحاثاً وتحقيقات ويراجعون المصادر ويستخدمون الوثائق وما إلى ذلك. عملي ليس التأريخ. عملي هو رواية ما رأيت وسمعت وحللت. وقد أُصيب أو أُخطئ.

يسأل قارئ رواياتك أين الحقيقي الواقعي وأين الخيالي؟

إن معظم الأحداث التي كتبت عنها حصلت بالفعل. هي أحداث حقيقية وواقعية. وأنا اتحمل مسؤولية كل جملة وكل حرف، ومنها الإضافات الأدبية التي تخدم سياق السرد والقصة. أحاول أن يكون في العمل شيء من عندي، كي أربط الأحداث والأمور. وهذا يحصل في العادة، إذ إن الكاتب أو الروائي يستعمل موهبته بالوصف، لخلق صور وشد القارئ. وهذا أمر جميل وممتع بالنسبة إلى الأحداث. وهنا مثل من روايتي Monday morning، حيث الأحداث حصلت معنا، أروي كيف انتقلنا من بيروت الغربية إلى بيروت الشرقية. وما قلته وما رأيته عن النقيب ملحم كرم والأجواء الداخلية في المجلة هي أمور حصلت بالفعل. المتخيل هو السرد القصصي الذي له علاقة بأسلوبي الخاص.




لماذا اخترت بيروت مسرحاً لأعمالك؟

لم أختر بيروت مسرحاَ لأعمالي، بيروت هي التي اختارتني. أنا ولدت في بيروت، ووعيت على هذه الحياة في منطقة رأس بيروت حيث كان سكن الأهل في شارع الصنوبرة. وكانت مرحلة المراهقة كلها بين الجامعة الأميركية وشارع بلس في الحمرا والكورنيش والروشة والصنائع. بيروت تعني لي كثيراً. بيروت، من دون أي تحيّز أو تعصب، هي المدينة التي علمتني كل شيء، وأنا أُدين لها بالكثير. يكفي أنني تعلمت اللغة الإنكليزية من خلال الكتب المستعملة والقصص التي كانت تباع على الأرصفة. شاهدت أجمل الأفلام الأجنبية التي كانت تُعرض في صالات شارع الحمرا. الحياة الغنية والوعي الثقافي المتعدد منحتهما بيروت إلي. منحتني الانفتاح والإحساس بالذات وحب الديمقراطية وحرية التعبير عن الرأي. كل رصيف، كل حائط، وكل مبنى، له في قلبي مكانة خاصة. بيروت الكنائس والجوامع، وبيروت الصروح العلمية، الجامعة الأميركية والجامعة اليسوعية والجامعة العربية، وغيرها وغيرها. وبيروت المدارس. مهما حكينا عن بيروت نبقى مقصرين بصراحة. بيروت لكل الناس. وكل من يعتقد أن في إمكانه فرض فكر أحادي من لون طائفي واحد على بيروت هو مخطئ مخطئ، لأن كثيرين جرّبوا ذلك وفشلوا.

هل يؤلمك ما آلت إليه بيروت، وتحاول تعويضه وإعادة تكوينه أدباً وتوثيقاً وتأريخاً؟

أجل يؤلمني الوضع الحالي في بيروت، وهو بسبب وهن الدولة. نحن نعيش في زمن لا قانون فيه. وكلما ضعف النظام وضعفت الدولة، فإن العاصمة تضعف وتسود الفوضى ونصبح كأننا في شريعة الغاب. لا أستطيع إلا أن أذكر انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020. صحيح أن اثره وضرره على كل البلد، ولكنه اثر بشكل كبير على بيروت. هذا الانفجار قتل كثراً، وذبح المدينة والناس، ويجب ألا نتخطاه. وهذه القضية يجب أن تستمر، قضية الناس الذين استشهدوا، الناس الذين أُصيبوا بإعاقات وتضرّروا. هذه مسألة ليست سهلة، ويجب ألا تمر.

كيف تقيم حال الثقافة في لبنان، في ظل الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية الصعبة؟

الحالة الثقافية كما تقول الأغنية «تعبانة يا ليلى». هي كذلك بسبب الأوضاع الاقتصادية والمالية، ولكن هناك مسـألة خطيرة أثّرت في الوضع الثقافي في لبنان عموماً وفي بيروت خصوصاً، وهي الأحزاب والتيارات الطائفية والمذهبية. هناك تطييف للجماعات الثقافية في لبنان، وهناك محاولة للاستيلاء على الفكر. وهذا توجه الفكر الواحد وإقفال العقول وخلق عقول شابة تفكر بطريقة أحادية ومن طريق المسلمات والتعميمات والماضوية والجمود الفكري. هذه كلها أمور مؤذية للأجيال الصاعدة، ومؤذية للفكر والثقافة. لكن هذا النوع من الفكر لا يدوم، خصوصاً وأن هذه التيارات الطائفية والدينية المتعصبة، وليس الدينية المنفتحة، لا تجد مثقفين إلى جانبها، هي تحصل على تأييد أناس معينين لا يتمتعون بعمق الثقافة، وهم مدفوعو الأجر. وهناك أمر آخر هو أن الحياة الثقافية في لبنان أصبحت مرآة للحياة السياسية. فكما يوجد تحجر وتحزب وتقوقع في الحياة السياسة في لبنان، يوجد تحجر وتحزّب وتقوقع وعصابات في الحياة الثقافية. وكل مثقف لا يجاري مشروع طائفته، سواء أكانت قوية أم ضعيفة، يصبح خارج السرب ويُحارب على كل المستويات.

بـــيـــن الـــعـــربـــيـــة والإنـــكـــلـــيـــزيـــة

غريبة هي قصة زياد كاج مع القراءة والكتابة. فصحف سباق الخيل هي ما جذبه إليهما، إذ كان يشاهد والده يومياً يطالعها مع فنجان الصباح. كذلك لم يفتتح زياد كاج هذه الصفحة من حياته باللغة العربية، بل بالإنكليزية، مع القصص المبسّطة التي كان يشتريها مستعملة من البسطات في شارع الحمرا في بيروت. وقد أخذته إلى عالم المغامرة والخيال، وإلى حب الأدب الإنكليزي بشكل خاص. ويروي أنه بدأ كتابة الأدب باللغة الإنكليزية. يقول: «كتبت قصائد في مجلة Monday morning التي عملت فيها لفترة، في مكتبها في الوردية قرب كنيسة الوردية، وكنت كل أسبوع أنشر قصيدة باللغة الإنكليزية. لاحقاً، قررت أن أكتب هذه القصائد باللغة العربية، وتمكنت من نشر بعضها. واستغرق تمكّني من التعبير باللغة العربية وقتاً. ومنحني ذلك مساحات أكبر، واستطعت التعبير بطريقة أفضل. وبدأت الكتابة باللغة العربية شعراً، ثم نثراً. ودعمني في ذلك الأديب والناشر سليمان بختي».

ورداً على سؤال «هل هجرت الكتابة بالإنكليزية؟»، يجيب: «مرة قررت كتابة رواية تحكي عن تجربة شخصية مع «الاكتئاب ثنائي القطب»، باللغة الإنكليزية، لكنها كانت مختصرة، أقل من مئة صفحة. سألت الطبيب فنصحني بكتابتها بالعربية. وفعلت ذلك، وأصبحت حوالى 250 صفحة، ونُشرت تحت عنوان «سحلب» ولاقت صدى إيجابياً. لم أفكر في نشرها باللغة الإنكليزية. ولديّ مشروع كتابة تجربتي في الجامعة الأميركية، حيث أعمل منذ عام 1985، باللغة الإنكليزية وليس بالعربية».


MISS 3