كوروش زيابارس

حملة ضدّ ترجمة الكتب الغربية في طهران

22 آب 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

في معرض طهران الدولي للكتاب في مسجد الإمام الخميني | إيران، 14 أيار ٢٠٢٣

تُطبَع كتب كثيرة في إيران سنوياً. تكشف بيانات من العام 2018 أن عدد الكتب المطبوعة يصل إلى 102691، ما يجعل إيران من أول عشرة بلدان تنشر أكبر عدد من الكتب سنوياً. بدأت هذه الأرقام تتقلّب منذ ذلك الحين، ومع ذلك بقيت إيران وفية للشغف الذي تحمله تجاه الكتب.

لطالما كانت ترجمة الأدب من اللغة الإنكليزية أو من لغات أوروبية أخرى إلى الفارسية تقليداً يحرّك المشهد الثقافي الإيراني. اشتهر عدد من أنجح المفكرين في البلد بفضل ترجماتهم التي يعتبرها أبناء الطبقة الوسطى صلة وصل مع بقية دول العالم، وتحصل هذه العملية بتسهيلٍ من النُخَب التي تفهم اختلافات الثقافات الغريبة وتفسّرها بطريقة تناسب سكّان مملكة معزولة.

لكن فيما تخضع مجالات مختلفة من الممارسات الفنية لقيود مستمرّة تفرضها الإدارة المحافِظة والمتشدّدة بقيادة الرئيس إبراهيم رئيسي، وفيما يضطر الفنانون المستقلّون للتعامل مع مستويات هائلة من الخوف والكبت، بدأت الحيوية التي طبعت التقاليد الأدبية الإيرانية تتحوّل إلى ضرر جانبي للأجندة الثقافية الرجعية. بالنسبة إلى حكومة تعارض صراحةً أي أثر للعالم المعاصر، يبدو قمع الكتب المترجمة التي تكشف أفضل جوانب الأدب الغربي منطقياً بالكامل.

بدأ عدد من أفضل أعمال الأدب الكلاسيكي المترجم يصل إلى البلد قبل عهد الجمهورية الإسلامية. لكن زاد شيوع ترجمة الروايات والأعمال الواقعية المعاصرة من الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أوروبية أخرى إلى اللغة الفارسية بعد وصول الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي إلى السلطة، في العام 1997، فهو سعى إلى إنهاء العزلة التي سبّبها البلد لنفسه وأطلق تحليلاً وطنياً جديداً حول مفاهيم غير مألوفة نسبياً، مثل حرية الصحافة والحريات المدنية. بالإضافة إلى عشرات الصحف التقدمية التي حصلت على تراخيص عمل، تأسست دور نشر جديدة ومتخصّصة بالأدب المترجم.

بعد تضييق الخناق على الأوساط الثقافية لسنوات، حيث تلاشت مكانة الصحف، والكتب، والموسيقى، وأشكال أخرى من التعبير الفني، كان ظهور حركة إصلاحية ناشئة يعني أن الإيرانيين يستطيعون الحصول مجدّداً على فرص مناسبة لاستكشاف العالم الخارجي. سرعان ما أصبح السفر الدولي رائجاً، وبدأت عائلات كثيرة ترسل أولادها إلى معاهد لتعليم اللغات لتحضيرهم للبرامج التعليمية الخارجية. في الوقت نفسه، قدّم مترجمو الأعمال الأدبية لمحة ساحرة عن الحياة الغربية عبر تسهيل وصول الأدب الأميركي والأوروبي إلى القرّاء الإيرانيين.

لا يعني ذلك أن جميع الأعمال الأدبية الغربية كانت تُتَرجَم وتُنشَر بكل حرية، أو أن الأعمال التي كانت تنجو من مقصّ الرقابة في وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي كانت تنتج نُسَخاً حرفية وأمينة للكتب الأصلية.

لكن أصبحت فسحة التعارف الثقافي أوسع من أي مرحلة تلت الثورة، وسرعان ما اشتهر عدد من أنجح المترجمين على المستوى الوطني. في غضون ذلك، أصبحت قراءة الكتب المترجمة مؤشراً على التطوّر والرقي الفكري. في مقاهي طهران ومدن كبيرة أخرى، راح الشباب المتعطّش للقراءة يناقش أحدث الأعمال الأدبية الأميركية والأوروبية، ومن بينهم طالبات في الجامعات، فكانوا يهربون جميعاً من تقلّبات الحياة ويتباهون بمعارفهم الفنية.

سرعان ما أصبحت مهنة الترجمة رفيعة المستوى لدرجة أن تذكر دور النشر الإيرانية أسماء المترجمين على أغلفة الكتب بِخَطّ يساوي حجم أسماء الكتّاب. مع ذلك، لم تتحوّل الترجمة يوماً إلى عمل مربح. يبقى انتشار الكتب محدوداً، ولا يُطبَع أكثر من ألف نسخة من بعض الكتب. كذلك، لا تنتشر عادة القراءة بين جميع الأجيال، ما يجعل وضع المترجمين المادي متواضعاً.

مع ظهور الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، تراجع الاتّكال على الكتب المترجمة باعتبارها أداة التعلّم الأولية لمعرفة ما يحصل وراء الحدود الوطنية، واستُبدِلت تلك المؤلفات بأدوات جديدة. مع ذلك، لم تخسر الكتب بريقها. لا تزال قراءة الأدب المترجم رمزاً للثقافة وانعكاساً للمواقف الموالية للغرب والعولمة.

لهذا السبب، كانت مقاومة الترجمة من أبرز معالم السياسات الثقافية خلال العهود المحافِظة والمتشدّدة التي وصلت إلى السلطة بوتيرة متقطّعة منذ العام 1979، بما في ذلك حكومة رئيسي اليوم.

كانت الرقابة أنجح أداة تستعملها الإدارات المتشدّدة لتهميش دور الترجمة وإعاقة أي روابط ثقافية وثيقة كان الإيرانيون يستطيعون إقامتها مع الثقافات الغربية غير المألوفة، حتى لو كانت تلك الروابط معرفية وفكرية بكل بساطة. اشتكى المترجمون أحياناً من حذف مقاطع، أو حتى فصول كاملة، من مسوداتهم، فاقتنعوا بضرورة سحب النصوص حفاظاً على سمعتهم أو سمعة دار النشر التي يتعاملون معها.

كذلك، كانت الإدارات المحافِظة تتعاون في معظم الأحيان مع دور نشر ذات عقلية مشابهة، فتُخصّص مبالغ طائلة لشراء كميات كبيرة من كتب تحمل توقيع كتّاب إيرانيين. كانت هذه المقاربة تُستعمَل كحافز اقتصادي وتهدف في الوقت نفسه إلى نشر وجهة نظر ثقافية وسياسية محدّدة. نتيجةً لذلك، تعرّض الناشرون المتخصّصون بنشر أعمال مُترجَمة للتهميش في سوق الكتب التي تفتقر إلى منافسة حقيقية.

تُعرَف حكومة رئيسي، منذ وصولها إلى السلطة في آب 2021، بنفورها التام من الحريات المدنية، وحقوق المرأة، والتعبير الفني، ولم يكن الأدب المترجم استثناءً على القاعدة. لم تعلن الحكومة عن أي خريطة طريق رسمية لكبح قطاع الترجمة، لكن من الواضح أن الإدارة وحلفاءها يحاولون ضمناً منع الأدب الغربي من كسب تعاطف الإيرانيين والتأثير على أفكارهم.

تذكر التقارير الإعلامية المحلية أن 1431 كتاباً مترجماً نُشر في إيران خلال فترة الثلاثة أشهر التي تنتهي في 22 أيلول 2022، ما يشير إلى تراجع بنسبة 37% مقارنةً بصيف العام 2021، فقد طُبِع حينها 2258 كتاباً خلال المدة نفسها. في أول ثلاثة أشهر من السنة الراهنة وفق التقويم الفارسي، نُشِر 5713 كتاباً مترجماً، علماً أن هذا العدد وصل إلى 7936 في الفترة نفسها من السنة الماضية، ما يؤكد حصول تراجع حادّ.

لا تملك الإدارة الإيرانية الوسائل اللازمة لحظر ترجمة الأدب الغربي بطريقة مباشرة، مع أنها كانت لتتخذ هذه الخطوة على الأرجح لو كانت تملك تفويضاً قانونياً. لكن لا يتردّد كبار المسؤولين في مهاجمة فكرة الترجمة علناً، باعتبارها مسألة مستهجنة أخلاقياً.

خلال معرض حديث للكتب في طهران، أخبر رئيسي الناشرين صراحةً بأن الأعمال المترجمة يجب ألّا «تطغى» على الكتب المحلية. وفي السنة الماضية، أعلن وزير الثقافة في حكومته، محمد مهدي اسماعيلي، أن «مجموعة من الأعمال المترجمة سيطرت على عقول وأرواح أولادنا»، وبالتالي يجب أن يتغيّر هذا الوضع كي يصبّ التركيز على الكتب التي تتطرّق إلى «الثقافة الإسلامية الإيرانية الغنية». ثم حرص على التكلم على ضرورة الحفاظ على «مبادئ ومعايير الثورة الإسلامية» في لجنة الإشراف على الكتب، وهي الهيئة المسؤولة عن التدقيق بالنصوص إيديولوجياً قبل التمكن من نشرها.

خلال معرض طهران الدولي الرابع والثلاثين للكتاب الذي انتهى في شهر أيار، بيعت مؤلفات الكتّاب الإيرانيين بعد خصم 25% من أسعارها، بينما اقتصرت نسبة تخفيض أسعار الكتب المترجمة على 15%.

قال أحد أعضاء لجنة صناعة السياسة في نسخة العام 2021 من معرض الكتاب، وهو أكبر حدث ثقافي يشهده البلد برعاية وزارة الثقافة ويشارك فيه المرشد الأعلى شخصياً، إن سيطرة الكتب المترجمة قد تطلق «غزواً ثقافياً».

هو يعتبر المشاركة في اتفاقية حقوق النشر الدولية وترجمة النصوص إلى اللغة الفارسية بعد أخذ الإذن من دور النشر الغربية وضعاً «بالغ الخطورة وغير منطقي». لكنه لم يستفض في كلامه عن السبب الذي يجعل التزام إيران بواجباتها في مجال حقوق النشر وضعاً خطيراً. من وجهة نظر السلطات في الجمهورية الإسلامية، يتطلّب التمسّك بحقوق النشر رفض اختصار محتويات الكتب أو تغييرها عشوائياً، وهو مطلب يستحيل الرضوخ له.

في شهر نيسان، قال محمد حسيني، نائب رئيس الشؤون البرلمانية ووزير الثقافة في عهد الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، إن ترجمة النصوص المكتوبة من لغات أخرى خلال عهد القاجار والبهلوي نشرت مظاهر «الافتتان، والتغيير الفكري، ومبادئ الغرب» وسط الإيرانيين. خلال مؤتمر مخصص لما يُسمّى «حركة الترجمة المعاكسة»، تفاخر حسيني بتخطيط الحكومة لجعل كتب الإيرانيين تُتَرجَم إلى أكثر اللغات شيوعاً في العالم. هو ادّعى أن الناس حول العالم يهتمون بقراءة أعمال الكتّاب والمفكرين الإيرانيين، «من الصين إلى الولايات المتحدة، ومن روسيا إلى أفريقيا»، لذا تنوي الحكومة بذل الجهود اللازمة لتشجيع «الترجمة المعاكسة» بدل تمويل ترجمة الأدب الغربي إلى اللغة الفارسية.

لن يكون ترويج مؤلفات الكتّاب الإيرانيين وإيصالها إلى القراء حول العالم فكرة سيئة. لكن طالما تبقى تلك الكتب ذات طابع ديني أو تعجّ بمواد مشحونة من الناحية الإيديولوجية، كتلك التي تريد الحكومة نشرها بأي ثمن، بدل تقديم أفضل الأعمال في الأدب الإيراني المعاصر، ستبقى حملة الترجمة المعاكسة قضية خاسرة.

لا يزال جزء كبير من الشباب الإيراني يعشق الأدب الغربي. ومهما كانت الجمهورية الإسلامية مُصمّمة على احتكار وسائل الإعلام والاهتمامات الثقافية التي يحملها الرأي العام، لم يعد معظم الناس مستعدين للرضوخ للرؤية التي تفرضها الحكومة. قد تحرم الحملة الصامتة ضد الترجمة بعض الإيرانيين من فرصة الحصول على المؤلفات التي يقرأها الناس في أماكن أخرى من العالم، لكن من غير المنطقي أن يصبح شعبٌ لم يفقد يوماً تعطّشه للترابط الدولي معزولاً بهذا الشكل.