عماد موسى

من ساحات تبليسي وقلعتها إلى كورنيش باتومي وجنّته

تناقض مديني صارخ... وكل ما ينشده السيّاح

23 آب 2023

02 : 00

جورجيا وجهة جديدة للّبنانيين المتوسطي الحال في هذا الصيف اللاهب. مطار العاصمة تبليسي في حركة نشطة. البلد يشهد نهضة سياحية غير مسبوقة. يأتي السُعوديون، بين السيّاح العرب في المرتبة الأولى، سقى الله أيام «يا لبنان دخل ترابك». وهناك بين السياح المتوجهين إلى بلاد القوقاز من يجزّئ إجازته بين جورجيا وإحدى جارتيها: تركيا وأرمينيا. والبلدان الثلاثة تتيح للبنانيين السفر إليها من دون فيزا. «إلى جورجيا طِرّ». صوت داخلي أمرني فاستجبت.



كل ما كنت أعرفه عن جورجيا راقصوها الذين شرّفونا مرّات الى لبنان الحبيب وأمتعونا بحيويتهم على المسرح وبكمية الحماسة والفرح التي يختزوننها إلى أزيائهم الفولكلورية وموسيقاهم الجميلة وكأنهم في عرس دائم. وأعرف «الثائر الجورجي» جوزف ستالين. معرفة سطحية. أبوه كان عنيفاً. في غوري (على مسافة 76 كيلومتراً من العاصمة) متحف لستالين، عزم وزير الثقافة الجورجي على قبعه ذات يوم ثم تراجع خشية أن يقوم الديكتاتور الراحل من قبره وينتقم شر انتقام. ستالين يفعلها.



عراقة



التنقل بين شوارع العاصمة الجورجية سهل بوجود شبكة مواصلات متنوعة: مترو «تكاسي» وباصات نظيفة دقيقة المواعيد، أنستنا أسطول الفانات الهرمة والمخلّعة التي تتسابق على خطوط الكولا والدورة وانطلياس. بـ 5 لاري، أي بأقل من دولارين تبرم المدينة، ويمكن أن تصرّف دولاراتك أو «يوروياتك» إلى عملة البلاد المحلّية في محال الصيرفة المنتشرة بكثافة. لا سوق سوداء «عندنا» في تبليسي.ولن تفلح محاولاتك في شراء قبعة بالعملة الأميركية. «صرّف وعُد إلي»تقول البائعة ذات الأخلاق الستالينية. الدولار يساوي 2.60 لاري تقريباً. وفي المطار، إن سارعت وتسرّعت وصرّفت، تأكل الضرب. ذكرتُ أن التنقّل سهل في تبليسي لكنه شديد التعقيد لمن هم مثلي يسيرون على غير هدى ولا يميزون في تنقلاتهم بين الجنوب الغربي والشمال الشرقي. بمساعدة صديق لبناني ومواطن جورجي قطعت جسراً ذهاباً وإياباً وأطللت على المدينة وبيوتها وساحاتها ونهرها من حصن قلعة ناريكالا المشرفة على نهر كورا، التي تم تشييدها في القرن الرابع الميلادي، «وهي بُنيت لغرض الحماية فهي كانت تقوم بحماية سكان المدينة من أي خطر خارجي». كما يذكر مرجع موثوق به. التلفريك يوصل إلى القلعة وكذلك الأقدام. اخترت قدميّ. وفوق إلى جانب القلعة سيدة جورجيا الملكة تمارا وهى كما أفادني صديقي «غوغل» حفيدة موحّد جورجيا الملك ديفيد اغماشينابلى وحكمت جورجيا فى القرن الثالث عشر. تحمل جلالة الملكة فى يدها اليمنى وعاءً من النبيذ ترحيباً بالضيوف وسيفاً فى يدها اليسرى لمحاربة أعداء جورجيا.

ومن جوار تمثال الملكة تطل أيضاً على غابة ممتدة على مساحة 128 ألف متر، تضمّ اكثر من 4500 نوع من أنواع النباتات والاشجار المختلفة من جميع أنحاء العالم ويستطيع السائح قضاء وقت ممتع فيها، في حال لم تكن إجازته أسرع من رفة جفن.



حداثة



إيقاعات ومعالم

في تبليسي كاتدرائيات يعود بعضها إلى القرنين الخامس والسادس، ولمعلومات اللبنانيين، أكثرية مواطني جورجيا من طائفة الروم الأرثوذكس (83 %) وهذا يسهّل تشكيل الحكومات ويجنّبها التعطيل بخروج إحدى الطوائف منها. كم جميل أن يخلو الدستور الجورجي من «لا سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك». تشعر هناك، كعلماني أورثوذكسي، بشيء من الزهو والتفوّق على العرق الماروني.

في التجوال بين الأحياء والأزقة يلفتك التناقض المديني الصارخ. كأن المدينة بوجهين.مطاعم ومؤسسات حديثة ومحال تجارية جديدة تقابلها أبنية متداعية مسقوفة بالتنك وشبه مهجورة. كأنها تنتمي إلى زمن آخر. فقر وغنى يفصلهما زقاق أو شارع.

وكذلك تلفتك كسائح رسوم الغرافيتي على الجدران العتيقة والكتابات المعبّرة عن مدى الكراهية للرفيق فلاديمير بوتين ليس فقط بسبب حربه على أوكرانيا إنما لدوره المساند لأوسيتيا الجنوبية وابخازيا للخروج عن سيطرة جورجيا، قبل 15 عاماً. 

كانت الحرارة مرتفعة في آب تبليسي. تسلق فروة الرأس. شعرنا بحدّتها نحن والكلاب «الملقوحة» في الشوارع وعلى مداخل المولات وأمام محطات الميترو وفي الساحات من دون حراك. تكتفي بإلقاء نظرة على إيقاعات الأرجل. كلاب وديعة متسخة مخصية. في أذن كل منها بادج يثبت أنه أخذ لقاحه. لا شيء يثير غضب الكلاب الشاردة هناك أكثر من «شيتزو» مهفهف يتبختر أمامها أو شي واوا عصبي أو شناوزر مدلّل. فجأة تنهض من خمولها وتطلق نباحاً تحذيرياً. لاحظت أن لكل كلب منطقة نفوذ ومساحة للتحرّك. الكلاب جزء من مشهدية المدينة.



سقف منزلنا اختفى



في سبعة أيام لاحظت أن النساء العاملات في جورجيا «إخوات الرجال» سلوكاً ونشاطا. تجدهن في محال التذكارات، على «غيشيه» المترو، وفي نقاط المراقبة، وفي البازارات وأسواق البرغوت وفي الأماكن السياحية يوزّعن على السيّاح عروضاً لـ «تورات» في طول البلاد وعرضها، وتجدهن خلف طاولات صغيرة يعصرن البرتقال والرمّان للعِطاش. مشهورة جورجيا بعصائر الرمان. وفي كل معرض رسم هناك لوحات للرمان الجورجي. ظهر يوم جهنمي طلبت كوباً «كينغ سايز»من عصير الرمّان بعدما أعياني المشي، وفوجئت أن ثمنه يوازي ثمن غداء فاخر لشخصين. دفعت على مضض وتلذذت حتى آخر نقطة في الكوب.

تبليسي مثل كل المدن العريقة التي تخترقها الأنهر، مثل القاهرة وباريس ولندن واسطنبول، جاذبة للسيأح خصوصاً أنها عرفت كيف تستفيد من هذا المعطى الطبيعي، ويمكن القول أن تبليسي هبة نهر Kura ومتفرعاته.

عادة تقود السائح خارطة طريق، أو دليلة سياحية، أو سائق بالتصرّف، أو تقوده عيناه، فيزرع خطواته في شارع يكتشف في بيروت أن اسمه على اسم الشاعر الجورجى الشهير: شوتا روستافيلى. ويعرف أن الجسر الذي «طرق» عليه أكثر من «بوز» هو جسر السلام الذي بني في إيطاليا العام 2010 ونقلته 200 شاحنة إلى تبليسي، وأن أول فطور جورجي تناوله إنما كان في مصنع قديم للملبوسات الروسية: فابريكا. مطاعم وموتيل وطابع معماري ينطبع في الذاكرة.

من ميدان الحرية إلى ميدان السلام، من منتزه إلى مول، من مطعم جورجي، إلى مقهى شارع أوروبي، من الحمامات الكبريتية المقفلة إلى حمّام الفندق الصغير، طارت الساعات ولم تنفد الأيام. وضبنا الشنط وحملنا باص إلى مدينة أخرى.



ليل باتومي


باتومي

العاصمة الثانية لجورجيا باتومي. 40 دقيقة بالطائرة. 8 ساعات بالباص مع احتساب الزحمة على مدخل المدينة والتوقف الإضطراري لقضاء الحاجات البيولوجية الملحّة، خمس ساعات تقريباً في الترامواي. الباص وحده كان الخيار المتاح. حلمتُ كثيراً أن أسبح مرة ثانية في البحر الأسود. المرة الأولى كانت في فارنا في صيف انتخابات سامي الخطيب. البحر الأبيض المتوسط على مرمى حجر من البيت. كم ستكون المياه لذيذة في لهيب آب، قلت وأنا أجول بنظري من النافذة. أخضر بلا حدود. عفواً هذا اسم جمعية تابعة للحزب. مساحات شاسعة مزروعة بالذرة أو حُصدت مواسمها حديثاً. غابات. ورش ضخمة لبناء جسور وتوسيع أوتوسترادات. عنفات رياح تدور وتولّد طاقة كهروميكانيكية، بيوت قليلة مسقوفة بالإترنيت بشكل مخروطي. هذا ما تشاهده من نافذة الباص المتوسط الحجم...والتكييف. لكن اللافت هو الأبقار. سارحة والرب راعيها. بالفعل أبقار بلا رعيان. وأحصنة بلا فرسان. الأبقار لا تغيب عن جانبي الطريق، لا بل أن بعضها قد تقرر أن تتأمل الوجود وسط الأوتوستراد غير عابئة بالمخاطر التي تهددها وتهدد قوافل السياح. مررنا بقطوع ذهاباً وبقطوع إياباً.

أما بعد.

تخيلوا الصدمة التي يواجهها المراهن على شمس آب والتمدد لساعات على شاطئ باتومي، عندما تستقبله المدينة بزخات المطر؟

نكاية بالغيم والطقس المزاجي نزلت في مياه البحر الأسود، في أول صباح لنا في باتومي، مع عدد قليل من السياح تحت مرأى باقة من الكلاب اللطيفة.

عالكورنيش

في باتومي أيضاً تناقض صارخ، بنايات عتيقة شاحبة مغبرة، بلاكين «هادية على صوص ونقطة»، مناشر غسيل، لوحات غريبة عجيبة. شوارع شعبية في ميل من المدينة. وفي ميل آخر فنادق عالمية وشقق مفروشة وليل صاخب ونوافير مياه وبحيرات ومطاعم وأبنية عريقة ومتاحف وساحات وتماثيل ومعاهد وحديقة نباتية أشبه بجنة معلّقة بين الأزرق...والأزرق. الجامع بين الإتجاهين، أو الميلين، أو نمطي العيش، أنهما يطلّان على كورنيش بطول 4 كلم يشكّل ملتقى السياح من مشارق الأرض ومغاربها.

المدينة وكأنها في مرحلة نمو متسارع. هناك على الكورنيش تصادف باعة متعددي الأعراق، تركي يبيع بوظة مترافقة مع حيل وألعاب خفة تجذب الأولاد، وتغذي. وآخر يبيع قرن ذرة. وهندي يؤجر عربات كهربائية أو دراجات عائلية. وهناك بسطات لمشغولات حرفية وعصير رمان بطبيعة الحال. الأسعار كالأمواج...مرتفعة.

على الكورنيش ملاعب لكرات السلة والطائرة والميني فوتبول وألعاب للأولاد ومطاعم متعددة الجنسيات ولمحبي الأراكيل النَفَس بـ 80 لاري. يقودك المشي من اكتشاف إلى اكتشاف. تكتشف بحيرة وعشّاقاً وانماط حياة. يقودك الكورنيش إلى شوارع وساحات وقبل أن تودع المدينة تشاهد بمبلغ ضئيل تضعه في قبعة، فواصل من الرقص الفولكلوري الجورجي. شباب يرقصون تحت زخّات المطر.



العاشقان


عــــلــــي ونــــيــــنــــو

يحتشد السياح على بولفار باتومي ويصورون بموبايلاتهم تمثالي «علي ونينو» المتحرّكين وهما تجسيد لقصة حب بين رجل أرستقراطي أذربيجاني مسلم شيعي، وأميرة جورجية مسيحية أرثوذوكسية. نُشرت القصة في أربعينات القرن الماضي. ومثل كل قصص الحب الشهيرة تبدأ المشاكل عندما يطلب علي الزواج من نينو، ويبدأ المُعترضون والمشكّكون بنجاح هذا الزواج المُختلط بإعطاء آرائهم فتتعقّد المسألة ويتورّط علي بقتل غريمه في حب نينو، فيهرب إلى داغستان وبعدها الى إيران.

يبلغ طول التمثالين 8 أمتار من الأسلاك المعدنية الصلبة التي تتداخل معاً حين يلتفّان معاً بحركة دائرية. تستغرق حركة التمثالين البطيئة حوالى العشر دقائق كي يتعانقا. انفصال فعناق...إلى أن تنقطع الكهرباء والأنفاس.


MISS 3