نجيب جورج عوض

هل ما زالت سوريا موجودة؟

25 آب 2023

02 : 00

هل ما زالت سوريا موجودة؟ كثيرون من السوريين بدأوا يسألون أنفسهم هذا السؤال، إمَّا ضمنياً دون أن يقولوه في العلَن خوفاً وخجلاً، أو علانيَّةً دون اكتراثٍ أو خوفٍ أو خجل. لا شكَّ بأنَّ هذا السؤال مصيري وأساسي ولا يمكن أبداً التعاطي مع المأساة السورية وما آلت إليه بعد مرور تلك السنوات الكارثيّة المأسوية دون مواجهتهِ والتفكير بهِ.

سمعني الكثيرون أقول إنَّ سوريا التي أعرفها وقد عرَّفتُ نفسي بها لم تعد موجودة. أثار جوابي قنوط البعض، وحيرَة البعض الآخر واستياء البَعض وحتى عداء البعض الآخر. من احتارَ اعتقدني أترحَّمُ على سوريا العقود الماضية التي كان عنوانها الاستبداد والقمع والفساد والانحطاط والنكوص، وكأنني أقول إنَّ تلك كانت سوريتي وأنها لم تعد موجودة.

في الواقع، هذه لم تكن يوماً سوريتي التي عرَّفتُ نفسي بها، وسوريا التي أعرفها ويعرفها جيلي، سوريا «الأسد والبعث»، ما زالت، ولحزني الشديد، موجودة ولم ترحَل، ولا يريد مُلّاك أسهم الشرق الأوسط، من أميركيين وإسرائيليين وبريطانيين، لها أن ترحل. أما من احتارَ من جوابي فهذا ما يعنيني في الحقيقة.

يعود سبب الحيرة برأيي إلى عدم وضوح ما نعنيه بقولنا «سوريا» في عقول الملايين من السوريين. من هنا، أعتقد أنَّ على السوريين أن يُفكّروا بعمق في فلسفة ماهية وطبيعة الأشياء التكوينية، التي يحدثنا عنها أفلاطون: ما هي سوريا؟ أو ما معنى «سوريا»؟ أو حتى «ما طبيعة سوريا»؟

أنا شخصياً، وانطلاقاً من منطق أفلاطوني وأرسطي (نراه حتى في نصوص الكندي والفارابي)، أُفرِّق مفاهيميّاً بين سوريا «الفكرة» أو «فكرة سوريا»، من جهة، وبين سوريا «الوجود» أو «تمظهُر سوريا». سوريا المظهَر والحضور هي ذاك الكيان الجمعي الدولتي والجغرافي والشعوبي والمدني والسيادي الذي اختارت مجموعات الحضور البشري المتعددة الموجودة على حيز جغرافي واحد أن تنضوي تحته وتتعاقد مدنياً مع بعضها البعض بالعيش فيه وخدمتهِ وتعريف وجودها الوطني والكياني والمواطني فيه.

أما سوريا «الفكرة» فهي التصوُّر المبادئي والقيمي والمخيال التعريفي الوجودي والماهوي الذي أختار أنا الفرد أن أُعرِّف وجودي الزمكاني والتاريخي والانتربولوجي والثقافي والمجتمعي والماهوي بدلالتهِ وانطلاقاً من إيماني به. بالنسبة لي، سوريا الوجود أو الحضور لم تَعُد موجودة بعد الآن، لأنَّ ما ندعوه «سوريا» اليوم هو حالة «لا دولة» (وليس حتى دولة فاشلة) وحالة «لا مجتمع» (وليس مجرّد مجتمع مُفكَّك) و»لا شعب» (وليس حتى حالة شعوب) و»لا سيادة» (وليس مجرّد نقص في السيادة) و»لا مجموع أو اجتماع» (وليس مجرّد تشرذم جماعات).

سوريا الوجود والحضور هي اليوم حالة «اللاسوريا». هي مجرد حالة افتراضية وهمية كل ما يجري فيها هو عملية اغتيال للواقع وهروب منه وتعالٍ عليه. سوريا الوجود والتمظهرُ هي «اللاواقِع» أو «اللاحقيقة». هذه الحالة من «اللاسوريا» هي حالة أنا لا أنتمي لها ولا تعنيني ولا تُعرِّفني ولا تعكس أو تعبِّر عن سوريا الفكرة التي انتمي لها وأُعرِّف نفسي كيانياً بها.

سوريا الفكرة لم تمت داخلي ولم تمّحَ ولم تَعُد مَشروطَة بطبيعة وحالة سوريا التمظهُر والوجود. سوريا الفكرة لم تَمُت، ولكنها غير حاضرة في الواقِع ولا تقبل بطبيعتها أن تنكص وتتحوَّل إلى إحدى حالات الافتراض. هي سوريا التي عادَت إلى مملكة الحلمِ والإيمان الجواني كأميرةٍ نائمة.

أسمحُ لنفسي بالاعترافِ بأنَّ سوريا الفكرة هي ما يبدو أنها الفضاء الجواني الذي يعيش في قلبه ملايين السوريين خارج وداخل الجغرافيا التي كانت يوماً ما سوريَّة: هي الفكرة التي ما زالت تبثُ أوكسيجيناً في عروقهم ونبضَ حياةٍ في عقولِهِم. هي الفكرة التي ما زالوا يجرأون، بشيءٍ من الجنونِ ربما، يُعرِّفونَ أنفسهم بها.

أما سوريا الحضور والوجود فما عادت تعني أي سوري على الإطلاق سوى من يقترن وجودهم بهذا الحضور الافتراضي الوهمي المدعو «لا سوريا». هذه «اللاسوريا» تعني فقط النظام وأفراده لأنهم موجودون بسبب وجود تلك «اللاحقيقة» ولأنهم موجودون للقيام بوظيفةٍ واحدةٍ دون سواها: الحفاظ على حالة «اللاسوريا» تلك وضمان ديمومتها.

ختاماً، أعتقد أنَّ التفكير بماهية الأوطان بات أمراً ملحَّاً ومصيريَّاً للعديد من الدول العربية ربّما، على رأسها العراق ولبنان. ولربما ينبغي أن يفكر بهذا السؤال شعوب العالم العربي برمته. فهذا السؤال كان برأيي يربض في لاوعي الجيل الجديد الذي ملأ شوارع وساحات العالم العربي العامة وحلم بربيعِ ما. حركة التاريخ تدعونا لنُفكّر بجرأة وانفتاح، كلٌ منا في موقعهِ وكل منا من سياقها، ليس فقط ما معنى أنني سوري أو عراقي أو لبناني أو مصري أو أو؟ بل وكذلك السؤال: ما هي سوريا؟ ما هي العراق؟ ما هو لبنان؟ ما هي مصر؟ الخ الخ.

هل ما زلنا ننتمي لأوطان ودول وكيانات حاضرة، أم أننا نتمسّك بانتماء وتماهٍ مع أفكارِ أوطان وتصوَّراتُ دول ومفاهيم كيانات؟ يوماً ما، علَّمنا ديكارت قائلاً: «أفكِّر، إذاً أنا كائِن». ما آلت إليهِ أوضاع سوريا والعالم العربي عموماً يدعونا لنكون ديكارتيين بامتياز في هذه المرحلة التاريخية: أن نفكِّرَ بفكرةِ كياناتنا كي نكونَ بأنفسنا.


MISS 3