جو إينج بيكيفولد وبال سيغورد هيلد

الجناح الشمالي لأوروبا أكثر استقراراً ممّا يوحي به

26 آب 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

جندي روسي خلال دورية في جزيرة كوتيلني في شمال روسيا | 3 نيسان 2019

يمكن رصد التداعيات الجيوسياسية للحرب التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد أوكرانيا في كل مكان، بما في ذلك منطقة القطب الشمالي. شدد المحللون والمعلّقون على آثار الحرب السلبية، على مستوى التعاون والحُكم في القطب الشمالي، وزيادة احتمال اندلاع الصراع في الشمال. يُعتبر تكثيف التعاون بين الصين وروسيا منذ بداية الحرب وضعاً مثيراً للقلق في المنطقة. حتى أن البعض اعتبر ما يحصل «لعبة كبرى» في القطب الشمالي، بما يشبه الصراع بين الإمبراطوريتَين الروسية والبريطانية في آسيا، خلال القرن التاسع عشر.

كان هؤلاء المحللون محقين حين افترضوا أن مناطق قليلة تختبر راهناً تحولات جيوسياسية تفوق ما يشهده أقصى شمال أوروبا. لكنهم مخطئون حين يدقون ناقوس الخطر. تتعدد الأسباب التي تجعل الجناح الشمالي لأوروبا مستقراً بشكل عام، ومن المتوقع أن يبقى كذلك في المستقبل المنظور.

بعد بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، واجه أقصى شمال أوروبا ومنطقة القطب الشمالي خمسة تحولات جيوسياسية كبرى.

أولاً، زادت قوة الناتو. دفع العدوان الروسي الشامل ضد أوكرانيا فنلندا للانضمام إلى الحلف، فزاد طول الحدود البرية التي يغطيها الناتو مع روسيا. كذلك، من المتوقع أن تنضم إليه السويد قريباً. في المرحلة التي سبقت الحرب، في كانون الأول 2021، أُضيف الطلب الروسي المرتبط بامتناع الحلف عن ضمّ أعضاء جدد إلى مسودات المعاهدات التي قدمتها موسكو إلى واشنطن والناتو. لكن حقق الكرملين هدفاً معاكساً بعد إطلاق الغزو.

ثانياً، زادت حرب بوتين في أوكرانيا أهمية أقصى شمال أوروبا ومنطقة القطب الشمالي على الأرجح بالنسبة إلى استراتيجية موسكو العسكرية. في المستقبل القريب، قد يؤدي انهيار القوات الروسية التقليدية في أوكرانيا إلى زيادة اتكال موسكو على نظام ردعها النووي. يتضمن أكبر جزء من الفرع البحري في الثالوث النووي الاستراتيجي الروسي غواصات تنشط في المحيط المتجمد الشمالي انطلاقاً من قواعده في شبه جزيرة كولا.

ثالثاً، يشهد الجناح الشمالي لأوروبا نشاطات عسكرية متزايدة. أعلنت روسيا أنها تتوقع عسكرة المنطقة بعد انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو. على غرار النروج، تحدّ فنلندا شبه جزيرة كولا في روسيا، وتُعتبر موسكو حساسة تجاه أي نشاطات يقوم بها الحلفاء في جوارها، نظراً إلى أهمية تلك المنطقة استراتيجياً. لكن على عكس النروج التي سعت إلى الحدّ من نشاطات الناتو بالقرب من حدودها مع روسيا منذ وقتٍ طويل، قد لا تفرض فنلندا القدر نفسه من القيود. هي فتحت مجالها الجوي مثلاً أمام الرحلات الاستخبارية الأميركية على طول حدودها الشرقية، وحصلت أول طلعة جوية في آذار 2023. كذلك، أصبحت قوات دول الناتو أكثر وضوحاً في التدريبات العسكرية التي تنفذها في مياه أوروبا الشمالية.

رابعاً، أدى وقف اتكال أوروبا على إمدادات الطاقة الروسية إلى زيادة القيمة الجيوسياسية لموارد النفط والغاز في الجرف القاري النروجي الذي يمتد من بحر الشمال إلى بحر بارنتس. في أول ربع من العام 2023، زوّدت النروج الاتحاد الأوروبي بـ46% من واردات الغاز الطبيعي عبر خطوط الأنابيب. خلال الفترة نفسها، كانت النروج أيضاً أكبر موردة نفط فردية في الاتحاد الأوروبي، فشكّلت إمداداتها حوالى 13% من مجموع الواردات. كذلك، أكد تخريب خط أنابيب «نورد ستريم»، في العام 2022، على هشاشة شبكات الطاقة في المنطقة. هذا الوضع دفع المعنيين إلى اتخاذ خطوات عدة، منها إنشاء فريق عمل مشترك بين الناتو والاتحاد الأوروبي يُعنى بمرونة البنية التحتية الحيوية، حيث تُعتبر روسيا مصدر التهديد الرئيسي.

خامساً، سمحت الحرب الروسية في أوكرانيا بتقوية علاقات الصين مع روسيا ومنحت بكين نفوذاً متزايداً للتأثير على شريكتها الصغرى، ما أدى إلى زيادة التأثير الصيني المحتمل في القطب الشمالي. تريد بكين الوصول إلى موارد هذه المنطقة، وقد تهتم بها استراتيجياً لتحقيق غاياتها الأولية وتوسيع وجودها البحري.

لكن أدى إعلان الصين عن نشوء شراكة «غير محدودة» مع روسيا في بداية حرب بوتين إلى تضرر العلاقات الصينية الأوروبية والحد من قدرة بكين على التواصل مع دول القطب الشمالي، باستثناء روسيا. في العام 2013، عبّرت روسيا عن معارضتها لانضمام الصين إلى مجلس القطب الشمالي، ولو بصفة مراقِب. لكن تماشياً مع توثيق العلاقات بين بكين وموسكو، رحّبت روسيا باستثمارات الصين وتعاونها التكنولوجي في هذه المنطقة. أصبحت موسكو اليوم ضعيفة ومعزولة وزاد اتكالها على الصين، لذا باتت تعتبر بكين شريكتها الأساسية في عدد متزايد من المجالات، بما في ذلك التجارة، والتكنولوجيا، والطاقة، وأنظمة الأسلحة ومكوناتها. هذا الوضع قد يدفع روسيا إلى تكثيف تعاونها مع الصين في منطقة القطب الشمالي أيضاً.

لكن حتى لو أثرت هذه التغيرات الجيوسياسية كلها على الجناح الشمالي لأوروبا، إلا أنها لن تؤدي بالضرورة إلى نشر الفوضى كما يتوقع عدد كبير من المراقبين اليوم. لا يزال أقصى شمال أوروبا منطقة مستقرة لثلاثة أسباب رئيسية.

أولاً، يضمن الانقسام الجيوسياسي البارز بين دول الناتو من جهة وروسيا من جهة أخرى توضيح المعطيات القائمة، ويُفترض أن يرسّخ هذا الوضوح الاستقرار. وبعد انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو، سيتراجع هامش المناورة الدبلوماسية والعسكرية الذي تملكه روسيا بدرجة إضافية.

على المستوى العسكري، تواجه روسيا اليوم منطقة شمالية قد تتبنى مقاربة منسّقة في مجال الدفاع والردع، وقد اتضحت هذه النزعة في خطة الناتو الدفاعية الجديدة في المنطقة. من المنتظر أن تشمل المنطقة الشمالية قريباً قوة جوية مشتركة ومتكاملة فيها حوالى 250 طائرة مقاتلة حديثة. إذا كان الاستعداد للقتال أفضل طريقة للحفاظ على السلام، يعني ذلك أن وضع المنطقة الشمالية الموحدة تحت مظلة الناتو سيكون إيجابياً.

ثانياً، تتمتع الدول في أقصى شمال أوروبا بخبرة واسعة في مجال السيطرة على العلاقات مع روسيا، بما في ذلك المخاطر المرتبطة بنشاطات الجيش الروسي. تعود معظم جوانب هذه الخبرة إلى الحرب الباردة، لكنها تنبثق أيضاً من تجدد نشاطات الجيش الروسي في المنطقة منذ العام 2007 تقريباً. لا تكف روسيا عن استفزاز دول الناتو في أقصى الشمال، لكن يحافظ الجيش الروسي رغم كل شيء على انضباط نسبي، لا سيما عند مقارنته بأجزاء أخرى من أوروبا مثل منطقة البلطيق. يتعلق تفسير محتمل برغبة روسيا في تجنب تصعيد التوتر والنشاطات العسكرية بالقرب من قواتها الاستراتيجية المنقولة بحراً. تعمل روسيا والناتو على تعديل استراتيجيتهما العسكرية ونشاطاتهما في الشمال، لكن يحمل الطرفان تاريخاً طويلاً من الانضباط النسبي، وهما يعرفان أنماط النشاطات العسكرية التي يطبّقها كل طرف، لذا يُفترض أن تتراجع مخاطر وقوع الحوادث وتصعيد الوضع.

أخيراً، لا يزال وجود الصين وتأثيرها في المنطقة محدودَين، رغم تنامي المخاوف بشأنها. لم تتحول التوقعات المرتبطة بوفرة عمليات الشحن من الصين إلى أوروبا عبر المحيط المتجمد الشمالي، أو ما يُسمى «طريق البحر الشمالي» أو «الممر الشمالي الشرقي»، إلى واقع ملموس يوماً. من أصل 314 ناقلة وسفينة تجارية أخرى مرّت بذلك الطريق في العام 2022، لم تبحر ولو سفينة واحدة وهي تحمل العلم الصيني، مع أن سبع سفن كانت مسجلة في هونغ كونغ. كذلك، لا يزال مشروع «يامال» للغاز الطبيعي المسال في القطب الشمالي الأوروبي أكبر استثمار قامت به الصين في المنطقة. ومن دون الحصول على التكنولوجيا الغربية، ستبقى قدرة الصين على استخراج موارد النفط والغاز البحرية في المنطقة محدودة.

على صعيد آخر، من المستبعد أن ترسّخ الصين وجودها العسكري في منطقة القطب الشمالي. نظراً إلى المنافسة البحرية القائمة بين الصين والولايات المتحدة في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، من المنطقي أن تنشر بكين معظم مواردها البحرية في آسيا، ومن المتوقع أن تقلق روسيا من أي وجود صيني بحري شمالاً، لأن هذه المنطقة قريبة جداً من أهم موقع استراتيجي روسي: الأسطول الشمالي. تدرك بكين مخاوف موسكو جيداً، وهي تتفهمها على الأرجح: خلال الحرب الباردة، رفض الزعيم الصيني ماو تسي تونغ الاقتراحات السوفياتية التي تقضي ببناء أسطول بحري مشترك وإنشاء سلسلة من محطات الراديو على طول الساحل الصيني للتواصل مع الغواصات السوفياتية الناشطة في المحيط الهادئ. لهذا السبب، سيبقى الجناح الشمالي لأوروبا مستقراً على الأرجح، وقد يحافظ على هدوئه عموماً على المدى القصير والمتوسط. في المراحل المقبلة، قد يتزعزع استقرار المنطقة بسبب سيناريوَين جيوسياسيَين محتملَين. وفق أحد السيناريوات، قد تستفيد روسيا القومية والقوية والمتجددة من انشغال الولايات المتحدة بالصين ومن صراع محتمل في شرق آسيا. رغم استمرار أهمية العلاقات العابرة للأطلسي بالنسبة إلى واشنطن وأهمية دور الجناح الشمالي لأوروبا في الاستراتيجية العسكرية الأميركية، قد يتراجع تركيز الولايات المتحدة على أوروبا في نهاية المطاف للتعامل مع التحديات الصينية. لكن سيكون نجاح روسيا في إعادة بناء قدراتها الاقتصادية والعسكرية بمستوى قادر على طرح تهديد جدّي على أوروبا، خارج حدود أوكرانيا، عملاً شاقاً جداً.

أما السيناريو الثاني الذي يستطيع نشر الفوضى في المنطقة، فهو يتعلق يإضعاف روسيا لدرجة أن تتمكن بكين من استعمال نفوذها المتزايد في موسكو لترسيخ وجودها العسكري في منطقة القطب الشمالي، ما يعني احتمال توسيع النطاق الجغرافي للمنافسة الأميركية الصينية وظهور مصدر جديد للتوتر في المنطقة.

لكن إلى أن يتحقق واحد من هذين السيناريوَين، سيبقى الجناح الشمالي لأوروبا أكثر هدوءاً مما يتوقع الجميع.


MISS 3