أخالني، عندما أقرأ، وأتابع سجالات، أنني في بهو كبير تفضي إليه بوابات ومسارات عديدة، مع ذلك اجد انهم ينصرفون بتركيزهم، بخطواتهم، إلى وجهة وحيدة: الكرسي العالية.
هذا المشهد هو مقلوبُ ما كانَ عليه البلاط سابقا: يتوجهون إلى البهو، حاملين أشعارهم، مخطوطاتهم، شاخصين إلى أعطيات ودنانير الجالس على الكرسي العالية: الخليفة (أو الحاكم باختصار).
الثقافة الحديثة لها أن تكون - كما هو معروف - أقرب إلى سوق، إلى مكتبة عمومية، لا إلى بهو الخليفة.
في السوق بوابات ومخارج عديدة، كما في المكتبات أجنحة ورفوف عديدة. تداولٌ وأرباح صغيرة أو كبيرة. والدنيا واسعة، وتحتمل الشيء وعكسه، و»الجمهور عاوز كده».
أخالني، وانا اقرأ، وأتابع السجالات، انني في حضرة ثقافة جماعية، كليانية، ولكن في عهدة الادباء. ثقافة الواحد الأحد:
الشاعر الواحد الأحد. الكاتب الواحد الأحد. الشاعر المتفوق على غيره. الرائد. غير المسبوق. «صوت الشعب». «ضمير الأمة». «أمير الشعراء»...
يرفعون ادعاءاتهم بذواتهم (لا بكتاباتهم) مثل خلاصات نظرية أو تحليلية، فيما يستعيدون ويلوكون أقوالاً مكرورة، لغيرهم، عن التجاوز والأفق، على أنها تخصهم بشخصهم، وممتنعة عن غيرهم بشخصهم.
كتب جان بودريار عن «الحداثة» بوصفها شبيهة: «السوبرماركت»، غير أنها لا تجري تماما، وفق التشبيه عينه، في ثقافة هذه البلاد. ذلك أن ما يطمح إليه المثقف، والكاتب خصوصاً، يتعين في: الغلبة ليس إلا، وليس في التمايز أو التباين أو الاختلاف.
ومن يعد إلى «الصراعات» والخلافات يتحقق من أنها أشد في سِيَر الشعراء من غيرهم.
وهي صراعات تتمثل في بلوغ المرتبة الاعتبارية: في الشهرة، في حيازة القيمة الرمزية («الرائد»، «الأول»، صاحب السبق وغيرها).
كما يختفي في هذا التنافس أي كلام نقدي حول الأسلوب، أو التجديد، أو الإضافة، أو التميز والتمايز وغيرها من صفات «الأدب» الحديثة.
كما لو أن الأديب معني: بشخصه، بنجوميته، بالحظوة التي يحصلها، أكثر مما كَتب.
كما لا يخالط هذه التباينات والتمايزات أي كلام، أي أرقام، عن مبيعات هذا الكاتب، أو هذا الكتاب.
كما لو أن الكاتب، ولا سيما الشاعر، يتقاطر، يتدافع، مع أقرانه، كما لو أنه يتسابق معهم على «المكرمة» في بلاط... سيف الدولة !