باسمة عطوي

يساعدون سياسيين في إثارة غبار يخفي الحقائق

شبهات تحوم حول كبار قضاة يساهمون في حملة "تسخيف" التدقيق الجنائي

31 آب 2023

02 : 00

سلامة يناور ويسجّل نقاطاً في مرمى القضاء

بدأت جهات قضائية وسياسية تسريب معلومات صحافية عن أن تقرير التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان الذي أعدّته شركة «ألفاريز أند مارسال» لم يقترن بـ»وثائق وإثباتات وأن فيه روايات غير مسندة».

الردّ بسيط ومن متن مطالعة النائب العام لدى محكمة التمييز القاضي غسان عويدات الذي أحال بموجبها ملف التقرير الى النيابة العامة المالية والنيابة العامة الاستئنافية وهيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، لمزيد من التحقيقات في عدد «معتبر» من المخالفات التي وصفها بـ»الجسيمة».

7 مخالفات وجرائم وشبهات من صلب التقرير

1- استناداً الى التقرير يقول عويدات إن هناك فصلاً خاصة بالتزوير في حسابات مصرف لبنان. فهل أقرّ بالتزوير من دون وجود ما قد يثبت ذلك في التدقيق الجنائي؟ أم أنه وجد ما يكفي من أدلّة مبدئية حتى يدرج ذلك في مطالعته؟ إذ لا يمكن لقاضٍ أن يتحدث عن تزوير جزافاً، وإلا فهو ليس بقاضٍ. ولا ننسى أن الأمر متعلق بالبنك المركزي وعلاقته بضياع أموال المودعين.

2- توقفت المطالعة أمام الفصل الخاص بالهندسات المالية التي قدّرت كلفتها شركة «ألفاريز أند مارسال» بنحو 76 مليار دولار. وتقرّ مطالعة عويدات بأن «الكلفة عالية» وأن هناك من تربّح منها. كما يقول عويدات إن الهندسات «لم تخضع لأي رقابة لاحقة ولا هي بنيت على أي دراسة جدوى». إذا نحن أمام شبهة عمولات تربّح هائلة من عمليات لم تخضع للرقابة.

3- عن حساب العمولات وارتباطها بحسابات الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة، تقرّ المطالعة بتحويل 96.8 مليون دولار الى الخارج و16.5 مليوناً الى الداخل من حسابات الحاكم، مع طلب من عويدات للجهة المختصة بالبحث عن مصدر هذه الأموال وعلاقتها بالهندسات والعمليات المالية التي وجدت فيها أطراف متربّحة مثل شركتي «فوري» وأوبتيموم»، علماً بأن القضاء اللبناني، منذ تحقيقات القاضي جان طنوس، كان توصل الى حقائق دامغة في عمولات «فوري» وعلاقة رياض سلامة وشقيقه وماريان الحويك بها.

4- أتت المطالعة على ذكر المساعدات والهبات التي شكلت مع عناصر أخرى ارتفاعاً في كلفة تشغيل مصرف لبنان، فضلاً عن حساب للاستشارات، ما يستدعي التحقيق فيها وفقاً للمطالعة.

5- أكد عويدات وجود عمولات بنحو 111 مليون دولار ذهبت لجهات مجهولة، وطلب التحقيق فيها لمعرفة هويات المستفيدين التي أخفاها رياض سلامة عن شركة التدقيق.

6- على صعيد الإدارة والحوكمة تحدّثت المطالعة بصراحة عن «وضع شاذ في إدارة مصرف لبنان وتصرفات غير سوية فيه».

الى ذلك، نوّهت بأن أعضاء في المجلس المركزي لمصرف لبنان «انصاعوا لأوامر وإغراءات الحاكم» (تفرّد بالقرار ورشاوى؟)

7- وعن الاحتياطات ذكر عويدات هبوطها خلال 2015-2022 من فائض 7.2 مليارات دولار الى رصيد سلبي بنحو 50.7 مليار دولار، في المقابل يعترف سلامة لشركة التدقيق بأن كلفة الهندسات 56 مليار دولار. ما دفع بعويدات الى طلب التحقيق في مبررات عمولات الهندسات وغيرها من العمليات المالية.

ما سبق هو بعض ما ورد في مطالعة عويدات، وبناء عليه أحال الملف الى 3 جهات تحقيق. فإذا كان تقرير شركة «ألفاريز أند مارسال» بني على سرديات غير مثبتة، فلماذا يطلب التوسّع في التحقيق؟

تعمية في القول إن القضاء ليس مسؤولاً وحده

على صعيد آخر، بدأت جهات قضائية تروّج لنظرية أن المسؤوليات لا تقع على عاتق القضاء فقط، إذ هناك مسؤولية على مجلس النواب والتفتيش المركزي وديوان المحاسبة. مع مطالبة خاصة بقيام مجلس الوزراء بتعيين محقق عدلي، لأن ما ورد في التقرير يمسّ الأمن الاقتصادي والاجتماعي للبلاد. والسؤال هو عن أي «مساس» نتحدث إذا كان التقرير عبارة عن روايات غير مثبتة بالأدلة والقرائن؟ وفي هذا تناقض فاضح. لذا فإن المصادر القضائية التي بدأت تثير الغبار ذات اليمين وذات اليسار يفترض بأنها باتت مشبوهة وتعمل على تشتيت الانتباه الذي يجب أن يتركز فقط على التحقيقات التي أجراها القضاء اللبناني وعلى التعاون القضائي مع عدد من الدول الأوروبية. فليس من واجب، ولا من أدوار، أي قاض التحجج والتبرير والقول إن المسؤوليات تقع على أطراف أخرى أيضاً. واجب القاضي النظر في ما بين يديه أوّلاً وأخيراً، وإلا فهو يتحوّل الى أداة بيد السياسيين الذين لهم مصلحة في تشتيت الانتباه وتضييع المسؤوليات وتسخيف ما ورد في التقرير الجنائي.

دور أساسي لـ»الثنائي» في المماطلة والتسويف

بالعودة الى شركة «ألفاريز أند مارسال»، يمكن الاعتراف والتأكيد أن اختصاصها الأول ليس التدقيق الجنائي. فالشركة الأكثر شهرة في العالم في هذا الميدان هي شركة «كرول»، وكان «الثنائي الشيعي» يعلم ذلك منذ البداية. فإذا به يخترع حجة أن الشركة تتعامل مع إسرائيل لاستبعادها ونجح. كما جرت محاولات كثيرة في 2020 ولاحقاً لعدم القيام بالتدقيق الجنائي الى أن استقرّ الرأي، بموافقة «الثنائي»، على شركة «ألفاريز أند مارسال». وأقرّ بعد جهد جهيد في البرلمان ما يسهل عملها لجهة كشف السرية المصرفية لزوم التدقيق. لكن الشركة وفي تقريرها تؤكد أن سلامة حجب عنها الكثير من المعلومات بذريعة السرية المصرفية. فماذا فعل رئيس مجلس النواب نبيه بري ووزير المالية يوسف خليل لإلزام سلامة كشف السرية وفقاً للقانون الذي أقرّ لذلك؟ لا شيء! تركت شركة التدقيق تحت رحمة سلامة الذي رفض منحها مكاتب في مصرف لبنان للقيام بعملها ومنع مقابلتها موظفي مصرف لبنان، فاضطرت للتدقيق من مكاتب في وزارة المالية من دون أن تحظى بمؤازرة فعلية من الوزير خليل، خصوصاً على صعيد شكواها من نقص المعلومات أو حجبها. فتأخر التدقيق كثيراً الى أن خرج بالصيغة التي خرج بها. والسؤال موجّه للقضاء أيضاً: كيف يمكن السماح بمرور جريمة إخفاء المعلومات ومن المسؤول الى جانب سلامة؟

من جهته أعرب حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري أنه سيوفّر للقضاء كل المعلومات المطلوبة. لكن ماذا لو لم يطلب تلك المعلومات القضاء المرتهن والذي بدأ يثير الغبار لإخفاق الحقائق؟ هل سيصمت منصوري كأن شيئاً لم يكن، أم عليه واجب المبادرة الى نشر كل معلومة صغيرة كانت أم كبيرة قالت شركة التدقيق إنها حجبت عنها؟

هل صحيح أن المعلومات ليست صاعقة؟

قدم نائب مدير المكتب التنفيذي للدول العربية في صندوق النقد الدولي السابق سامي جدع، من خلال دراسة أعدّها لمعهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية، قراءة متأنّية لما تضمّنه التحقيق الجنائي الذي أنجزته شركة «ألفاريز أند مارسال» حول الوضع المالي في مصرف لبنان. وجد جدع أن التقرير لم يقدّم للبنانيين والخبراء معلومات صاعقة تقلب المشهد المالي والسياسي رأساً على عقب، بل جاء ليؤكد ما كان يتمّ تداوله من معلومات وتجاوزات، لكنه يمكن أن يكون جزءاً من رسم خريطة طريق لإصلاح كل الاختلالات المالية التي أدّت الى الوضع المالي الكارثي الذي يعاني منه لبنان.

التدقيق مطلوب من دول وجهات مانحة

يشرح جدع لـ»نداء الوطن»وجهة نظره هذه من خلال الحديث أوّلاً عن أهمية إنجاز التحقيق الجنائي، فيقول: «أهمية التدقيق الجنائي تكمن في نقطتين، الأولى أنها المرة الأولى التي يجري فيها هذا النوع من التدقيق في المصرف المركزي، ويتمّ الاطلاع على منهجية الحسابات والعمل في المصرف لجهة اتخاذ القرارات. والخلاصات التي قدّمها التدقيق أتت لتؤكد كل ما قيل عن حسابات وعمل المصرف المركزي «، موضحاً أن «التدقيق بحسب علمه، جاء بناء على رغبة عدة دول مانحة، وليس فقط لرغبات داخلية. وتم ربط حصوله كشرط للمساعدات الخارجية، من دون أن يعني ذلك أن هذه الخطوة وحدها تكفي، بل أن الأمر يحتاج الى تنفيذ إصلاحات عديدة، بينما كان صندوق النقد يريد تدقيق حسابات البنك المركزي للتأكد من ميزانيته، لكن لم يكن مهتماً بكشف حصول تجاوزات في السابق».

سلطة مركزة وفوائد عالية

يضيف: «وحاولت تلخيص الأمور المهمة، وأولها أن التدقيق الجنائي استطاع تقديم أرقام منقّحة لحسابات المصرف المركزي لجهة الرأسمال وصافي الأصول الخارجية (تبين أنهما تحت الصفر)»، لافتاً الى أن «التدقيق أظهر أيضاً كيفية اتخاذ القرارات في مصرف لبنان ودور المجلس المركزي والصلاحيات الواسعة للحاكم في تحديد أسعار الفائدة مع المصارف والهندسات المالية... وهي كلّها تفاصيل بحسب التقرير تدلّ على أن السلطة المتركزة في يد الحاكم تتجاوز ما هو متوقع بشكل معقول في البنوك المركزية، مع عدم كفاية التدقيق في استخدام هذه السلطة».

مسؤولية ممثلي الحكومة في المجلس المركزي

يقول جدع أيضاً: «مسؤولية التدقيق يتحمّلها أيضاً ممثلو الحكومة الأعضاء في المجلس المركزي، وهذا يعني أن الحكومة كان باستطاعتها نظرياً أن تعلم ماذا يحصل. وتضمّن التقرير معلومة مفادها أن ممثل الحكومة راسل وزير المالية مؤكداً أنه لم يتمكن من الحصول على المعلومات التي تجعله يقوم بواجباته الوظيفية بطريقة صحيحة والحكومة لم تتحرك»، مشيراً الى أن «التدقيق تناول الأرقام حتى 2020، ولم يكن متوقعاً أن يستغرق إنجازه كل هذا الوقت، فبدلاً من أن ينتهي العمل به بعد 12 أسبوعاً، استغرق إنجازه 3 سنوات تقريباً. ويبقى أن الكثير من الإجراءات التي قام بها البنك المركزي في السنوات 2021 و2022 مثل إطلاق منصة صيرفة مثلاً تفتح الباب على دراسة تأثير هذه الخطوات على الوضع المالي للمركزي».

زيادة الشفافية والحوكمة في مصرف لبنان

ويسأل جدع: «هل المسؤولون في المصرف المركزي وفي الحكومة، بعد الاطلاع على مضمون التقرير، سيعزّزون الشفافية والحوكمة وتفعيل الدور الرقابي؟ أعتقد أن كثيراً من قواعد الحوكمة الممكن تنفيذها موجود في الاتفاق الأوّلي الذي حصل بين لبنان وصندوق النقد».

ويختم: «التدقيق الجنائي يمكن أن يؤدي الى ترسيخ الحوكمة في البنك المركزي، كما أنه يثير ملفات يمكن ملاحقتها مثل التي لم يستطع الحصول على معلومات كافية عنها لا سيما الهندسات المالية، وكيف تمّ اتخاذ القرارات؟ ومن هي الجهات التي انتفعت منها على حساب ميزانية المركزي؟ وأيضاً المصاريف والعمولات التي صرفت... لتكوين صورة أوضح عن عمل البنك المركزي في السنوات الأخيرة».


MISS 3