السيارات العمومية في لبنان أصبحت مثل كهرباء الدولة ومياه الدولة والدولار في هذه الدولة: شحيحة. لم يعد أصحاب اللوحات الحمراء ينقرون على الزمور، على وتر أعصابنا، بحثاً عن راكب يلمحونه من بعيد. ملّ هؤلاء - كما جميعنا - من المهنة ودهاليزها، ومن القهر ومستوياته، ومن اللامبالاة وارتداداتها. ملّ سائقو السيارات العمومية في لبنان. فهل هذا إيذان بأفول شكل المهنة القديمة وحلول أوجه جديدة مكانها؟
يجلسون على قارعة الطرق، عند المستديرات، وتحت الجسور، يبحثون في شؤون الشرق الأوسط وزيارة هوكشتاين، واللقمة الطيبة على ضفاف صخرة الروشة، وحظوظ العماد جوزاف عون في الرئاسة، وسعر المنقوشة بالزعتر، والتجديد لليونيفيل، وفواتير الكهرباء والإنترنت، ونار أسعار البنزين والمقاومة الحقّة للبقاء. يتحدثون في أشياء تلهيهم قليلاً عن حالهم لكنها تنتهي، في المحصلة ، يعودون إلى وضعهم المأسوي.
نصدّق. حال هؤلاء حال. سائقو السيارات العمومية في لبنان باتوا «على الأرض يا حكم». فهل يكفي أن نشفق عليهم ونقول ونحن نراهم يلهثون وراء سبل البقاء، تحت عين الشمس، بلا فائدة: يا حرام! جميعنا أصبحنا يا حرام. هذا صحيح جداً لكن هناك من أصبحوا: «عدم». فلنسأل عنهم ونحن عارفون أن الفقر هو أسوأ أنواع العنف.
حين نغوص في همومهم نشعر بالسياسة تعوم. فالنقل في لبنان له علاقة بالسياسة «من زمان وجاي». وهناك من يتلاعب بهم حتى اليوم كما كرة القدم. يشوطونهم يمنة ويسرة غير مبالين بمصائر ناس، مسنين، طالما كانوا - أيام اللوج - يضعون المنشفة في عز الحرّ على كتفهم لامتصاص عرق الجبين. إثنان إسمهما «فاقع» في موضوع السائقين العموميين القهّار: بسام طليس ومروان فياض. والإثنان لم يتفقا يوماً مع بعضهما فكيف يتفقان على حلّ مشاكل أصحاب اللوحات الحمر؟
المشكلة عند الحكومات
نبحث عن بسام طليس هذه الأيام فنجده يشارك في حملة تشجير على اوتوستراد السيد موسى الصدر. هو يشارك في المناسبة بصفته مسؤول مكتب البلديات المركزي في حركة أمل. زرع رئيس إتحادات ونقابات النقل البارحة شجراً. إنه عمل ممتاز في بلد يفترض أنه أخضر ويجب أن يظل أخضر. لكن، ماذا عن حال السائقين العموميين الغاضبين على كل الأطراف وأولها على الطرف المحسوب هو عليه؟ هل صحيح أنه يحتاج الى إشارة من رئيس حركة امل نبيه بري ليأخذ خطوات يتقدم فيها أو يتراجع وفق أجندة سياسية؟ بسام طليس (رئيس إتحادات ونقابات قطاع النقل البري في لبنان ومسؤول مكتب البلديات المركزي في حركة أمل) يرفض أن نقول يتراجع (يتمنى ذلك) إلا إذا كنا نريد مسبقاً «القواص» على النقابات. هو كان يستعد للمشاركة (البارحة) في الذكرى الخامسة والأربعين لتغييب الإمام موسى الصدر التي تحييها حركة أمل لكنه يعطينا - ومن خلالنا يعطي السائقين - بعضاً من وقته. يقول: «نحن تحركنا وعملنا مفاوضات والقرارات التي انبثقت منها عند الحكومات. نحن ليس لدينا جهاز او ذراع لتطبيق القرارات التي يفترض أن تنفذها الإدارات الرسمية المعنية. أجرينا إتفاقاً مع رئاسة الحكومة بنقاط عديدة: واحدة، إثنتان، ثلاث... لكن لم يطبق شيء. فأين برأيكِ تكون المشكلة؟ طبعاً عند الحكومات وليس عندنا».
هل معنى ذلك أن نقول للسائقين الذين إلتقيناهم هائمين لا يدرون إلام سيؤول المصير: إبحثوا عن مهنة اخرى؟ يجيب: «لا، أنا لا ولن أقول لهم فتشوا عن مهنة أخرى. قطاعنا حيوي في البلد وكل القطاعات تعاني لذا، أقول لهم اصبروا. فكل شي لا بُدّ أن يعود ويتحسن» ويستطرد: «ليس أسهل من أن أقف يوم الإثنين المقبل وأدعو الى إضراب ومسيرات وتظاهرات لكن، إلام ستؤدي؟ أنا اعرف سلفاً أنها لن تحلّ المشاكل العالقة. إتفاقيات ومطالب؟ نحن سبق واتفقنا مع الحكومة وحصلنا على إعتراف بمطالبنا وبمكاسب نظرية لكن من ينفذ؟ المطلوب التنفيذ».
هل معنى ذلك فالج (ما تعالج)؟ هل هذا معناه أن يستسلم السائقون لواقعهم كما استسلمت أنت وتراجعت عن يوم الغضب؟ يجيب: «يحتاج المرء أن يكون رأسه على كتفيه وقدماه على الأرض. أنا لم أتراجع بل أتتني عشرات الإتصالات من مواطنين وإعلاميين يطالبونني بفتح الطرقات المقفلة. هذا ليس تراجعاً. إذا كان المطلوب أن يترجم الغضب بالتكسير فأنا لن أكسّر. هو يوم غضب لا شغب. نحتاج الى وجود دولة بالأوّل كي نطالبها بحقوقنا. هناك 300,000 موظف حكومي بالكاد يلتحق منهم 50 واحداً بأعمالهم. العسكر يهرب. قوى الأمن الداخلي لا تطبق القانون. نحن امام معضلة أزمة حقيقية وكل الإتفاقيات التي أنجزناها في السراي استمرت حبراً على ورق».
كل شيء معطل في البلد. كل شيء أصبح بلا أفق. والسائقون العموميون- المسنون منهم تحديداً- ليس أمامهم إلا أن ينتظروا في أواخر العمر أن تعود للوطن دولة. وإذا سبقها الموت فيكون هذا حظهم في بلد يعيش بالحظ.
السائق متروك
نبحث عن مروان فياض فنجده في المستشفى. أكل «صفقة هوا» فدخل المستشفى لكن هاتف النقابة العامة للسائقين العموميين بين يديه «بلكي» يستطيع حلّ ما لا يحلّ من مشاكل السائقين. صعبٌ ان يعمل المرء وهو عارف أن عمله سيذهب سدى. من على فراشه في المستشفى تكلم عن حال السائقين العموميين الذين يتعرضون الى «صفقات أقوى من الهوا» من كل ميل: «وضع السائقين كارثي بكل ما لكلمة كارثة من معنى. الشوفير (السائق) متروك ولا أحد يبالي به. وعدونا ببونات بنزين وبمبلغ شهري 500 ألف ليرة وببطاقة تموينية وبخطة نقل. طلعوا كذابين. لم يعطونا شيئاً. كلهم يكذبون ويبيعوننا حكي بحكي (رئيس الوزراء نجيب ميقاتي ووزير الأشغال العامة والنقل علي حميه ووزير المال يوسف خليل والمفارقة أنهم ينتمون الى محور واحد). والحلّ؟ «فكرنا أن نتظاهر لكن من سيردّ علينا؟ والشعب مش ناقصو تظاهرات. حتى السائق العمومي لم يعد يملك رفاهية التظاهر فهو غير قادر على الوصول الى مكان التظاهرة والهتاف: بدي آكل. ما وصلنا إليه مشكلة كبيرة. كل يوم نتصل بالمسؤولين والمسؤولون في عالمهم يعيشون».
لا كلام ولا سلام بين فياض وطليس. فالأخير كما قال رئيس إتحاد نقابات سائقي السيارات العمومية «هو ساكت، صامت، يعمل كما يقول له معلمه (نبيه بري). يتابع: أتكلم يوميا مع بشارة الأسمر (رئيس الإتحاد العمالي العام) ووزير النقل. نحن نعيش في مزرعة ومافيات لا في دولة. السائقون أصبحوا تحت مستوى الارض. إنهم يعبئون البنزين بقناني المياه. بخمسة عشر الف ليرة. أتتصورين ذلك؟ والتعرفة تقدّر، كما حددتها في بيروت، بمئة وخمسين ألفاً. لكن، لا ركاب والتسعيرة لا توفي ما يتكبده السائق. كيلو زيت المحرك بخمسة دولارات كحدٍّ أدنى. وسعر الدواليب نار. وتعب السائق وين؟ والأنكى، ننزل الى وزارة النقل فلا نجد أي موظف لإتمام المعاملات. وموظفو الدولة يقبضون آخر الشهر من دون ان يلتحقوا بأعمالهم. حقهم. نعرف ذلك. لكن أين حقوق السائقين؟ أين حقوقنا؟».
يلفت فياض الى أن «كل شيء فارط». نقول له: نعرف. ونتابع الإستماع إليه: «نعيش في دولة نبيه بري وحزب الله. كل شيء بيد حركة امل. هناك إفلاس في البلد على مختلف المستويات. يدفع السائق ستة ملايين ليرة للضمان الإجتماعي كل ثلاثة أشهر وطبابته على أساس 1500 ليرة. عدد السائقين تدنى في العامين الأخيرين نحو ستين في المئة. السائقون وضعوا لوحاتهم الحمراء جانباً ويعملون نواطير مبان أو حرساً في مؤسسات. وهناك أربعة سائقين مسنين يأتون الى موقف الدورة يومياً ليطلعوا نقلة ويؤمنوا خبزاتن».
سعر اللوحة العمومية اليوم أصبح 7000 دولار بعدما كان قبل ثلاثة أعوام 40 ألف دولار. كل شيء يتغير. كل شيء يتجه نحو الأسوأ. وشركات النقل الخاصة مثل bolt والتوك توك تزاحم السائقين على لقمة عيشهم وتعمل بدون تراخيص. صحيح أن بلدية بيروت منعت التوك توك في قلب بيروت لكنها «تنغل» في المتن وكسروان وجبيل وصيدا والبقاع وعكار وبعلبك. ولا عناصر امن على الطرقات ليمنعوا المخالفات.
اليوم عدد المركبات العمومية، مركبات التاكسي الصغيرة ذات اللوحات الحمراء، 33 ألفاً. في العام 1914 لم يكن في البلاد سوى ثلاث سيارات أجرة فقط في بيروت. أتتصورون؟ لا نعرف إذا كان الوضع أفضل أو أسوأ. لكن هذا ما كانت عليه الحال أيام زمان. تبدل الأمر. هناك من يقول للسائقين «على طرق النفس» أن يبيعوا لوحاتهم الحمراء الآن، بسعرها المتدني، لأن الآتي أعظم. هناك من يصرّ على ترويعهم أكثر. أحد متابعي الملف قال لهم: أوعا حدا يبيع. يصدقون؟ نعرف أن القلق يتغلب على أي شيء آخر. في الطريق، بالكاد نصادف سائقين عموميين يتزاحمون على الطرقات. 60 في المئة من هؤلاء جمدوا عملهم الى حين تعود الدولة الى الدولة. والآخرون يتمنون لو يمرّ العمر أسرع. وحظ الجميع أنهم ولدوا في لبنان.