عيسى مخلوف

موسم قِطاف الرواية!

2 أيلول 2023

02 : 02

لوحة «المرأة والكتاب» للفنّان الإسباني خوان غريس

منذ الآن حتى نهاية فصل الخريف، تستقبل المكتبات الفرنسيّة، ككلّ عام، الإصدارات الجديدة، وبينها، هذا العام، 466 رواية (في العام 2010، سُجِّلَ الرقم القياسي مع صدور 700 رواية). هذا الرقم الذي يبدو متراجعاً عن أرقام السنوات الماضية هو، في حدّ ذاته، رقم كبير ومدهش، ويدفع إلى سؤال أوّل: تُرى، هل ستواكب هذه الإصدارات الجديدة قراءات نقديّة فعليّة، وإذا كان الجواب بالإيجاب، فمن الذي سيقرأها، وكيف ومتى؟

منذ البداية، تعرف دور النشر أنّ هناك كتباً مرشّحة للبيع أكثر من غيرها، وهي الكتب التي تحمل تواقيع كاتبات وكتّاب نجح تسويق كتبهم في السابق، ويكون لوسائل الإعلام، والجوائز أيضاً، دور مهمّ في لفت الأنظار إلى هذا الكتاب أو ذاك. مراهنة الناشرين على هذه الكتب كالمراهنة على أحصنة في سباق الخيل. أما نسبة الكتب التي تُتلَف فهي كبيرة جدّاً. بين عامي 2018 و2020، تمّ التخلّص من قرابة 26300 طنّ من الكتب، وفقاً للاتحاد الوطني للنشر، أي ما يعادل أكثر من 80 مليون نسخة سنوياً، وهي نسبة النُّسَخ التي تُرمى ويُعاد تدويرها وتحويلها إلى مواد خام. كتب لم تُفتح أبداً ولم تُقرأ!

هذا هو الخطّ البياني لحياة الكتب، فمنها ما يموت لحظة ولادته، ومنها ما لا يعيش في المكتبات أكثر من شهر أو شهرين. وهناك مؤلّفات، لا سيّما تلك التي تحوز جوائز، تحقّق أرقام مبيعات كبيرة. في هذا المناخ التسويقي الذي لا يرحم، يصبح معيار الكتابة الأهمّ هو النجاح المادّي والإعلامي. الأدب الرائج ينطلق، في الغالب، من قضايا وموضوعات مثيرة. يثير فضول القارئ ويكون، في معظم الأحيان، أدباً مسلّياً لا تتطلّب قراءته جهداً، ولا يختلف مع السائد أو يفتح آفاقاً جديدة، أو يقترب من الجوهر الإنساني. وهذا ما يفسّر نجاح بعض الرّوايات في الوصول إلى أعداد ضخمة على المستوى العالمي. لكن، هذه العالميّة لا تعني شيئاً في زمن العولمة، ونَقْل عمل روائي إلى غير لغة لا يعكس دائماً، بالضّرورة، قيمته الفنية وأهميّته الجمالية. وهل من حاجة إلى التذكير بأنّ العالميّة هي أيضاً الماكدونالدز والبلوجينز والكوكاكولا والمسلسلات التلفزيونية المدبلجة العابرة للقارّات؟

ما يعمّق سيطرة المال في عالم النشر الفرنسي اليوم، هو إقدام متموّلين كبار على شراء دور نشر عريقة وضمّها إلى شركاتهم ومجموعاتهم التجارية التي تسعى إلى الهيمنة على عالم الصحافة والكتب، وفرض معاييرها الخاصّة، كما الحال مع رجل الأعمال، الملياردير فانسان بولوري، الذي يواصل توسيع إمبراطوريّته والمعروف بدعمه للصحافي اليميني المتطرّف إريك زمور.

يكشف هذا الواقع الوجه الآخر للكتابة في الوقت الرّاهن. إنّ ما يحدّد أهمّية الكتاب ونجاحه وشهرته هو، في المقام الأوّل، قيمته الشرائيّة. التجارة هي الأساس بعدما أصبحت الروايات تشكّل صناعة بحدّ ذاتها في الغرب. صناعة تستخدم قنوات محدّدة وجيوشاً من المتواطئين، من وسائل إعلام ونقّاد وسوق نشر إلى المهرجانات والجوائز. هذا لا يعني أن ليس ثمّة روايات عظيمة تستحقّ التقدير، لكنّ أعمالاً أدبيّة كهذه أصبحت تنتمي إلى النّدرة والاستثناء. العثور عليها داخل حفلة التسليع هذه، وفي غياب القراءات النقديّة الجدّية، ليس بالأمر السهل، خصوصاً عندما لا تلتفت إليها الجوائز، ويكون مصيرها، أحياناً، كمصير الكتب التي يُعاد تدويرها. والحال هذه، أليست الرواية، على الرغم من شيوعها وانتشارها، هي أيضاً في أزمة، وإن اختلفت أزمتها عن أزمات الشعر والفكر والفلسفة والعلوم الإنسانيّة، وكذلك الفنون التشكيليّة؟ يقوم الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي إذاً بدور كبير في تسطيح العلاقة بالأدب، وفي استطاعة هذه الوسائل أن ترفع شأن كاتب اليوم وتلغيه في اليوم التالي. هذا ما حدث مع عدد من الكتّاب ومنهم الكاتبة الفرنسيّة كريستين أَنْجُو، إثر صدور روايتها «لحظة تَحَوُّل في الحياة»، فالكاتبة الّتي قُدّمَت أمسِ للقرّاء بصفتها كاتبة فذّة وعبقريّة، هل يُعقَل أن تصبح، بين ليلة وضحاها، مجرّد سلعة منتهية الصلاحية؟

نكرّر القول إنّ هذا الواقع الذي يؤكّد أنّ الابتذال يحقّق المزيد من الانتصارات، بل بات يُنظَر إليه عند البعض بصفته أحد الفنون الجميلة وقيمة قائمة بذاتها، لا يختصر على الإطلاق المشهد الأدبي بأكمله. لكن، في غياب شبه كامل للنقد الموضوعي، أيّ مصباح سيحمله القارئ في ظُلمة هذه الأدغال؟


MISS 3