نجم الهاشم

45 عاماً على إخفاء الإمام الصدر... عودة إلى مسرح الجريمة (2 من 3)

الإمام الصدر بين هوّاري بومدين ومعمّر القذافي: الجيش أوّلاً

2 أيلول 2023

02 : 00

الصدر في لقاءات شعبية

عندما حصل الإجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان في 14 آذار 1978، كان رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ورئيس «حركة أمل»، الإمام موسى الصدر يقوم بجولة شملت عدداً من الدول الأفريقية حيث توجد جاليات لبنانية شيعية. تطورات الوضع العسكري استدعت منه قطع جولته والعودة إلى لبنان. بعد أشهر كان يستعدّ لجولة على عدد من الدول العربية ولم يدرك أنّ موعده مع الرئيس الليبي معمر القذافي سيكون موعداً مع القدر والغياب.



على رغم صدور القرار 425 عن مجلس الأمن، ومجيء القوات الدولية لحفظ السلام «اليونيفيل» إلى جنوب لبنان، لم يحصل الإنسحاب الإسرائيلي الكامل إلى الحدود الدولية، وأقامت إسرائيل في الجنوب شريطاً حدودياً سمحت فيه لقوات «جيش لبنان الجنوبي» بقيادة الرائد سعد حداد بالسيطرة عليه. عاملان أفشلا محاولة إرسال الجيش اللبناني إلى الجنوب. الرفض الإسرائيلي وتمسّك القوات الفلسطينية بالبقاء في الجنوب من أجل الإبقاء على عوامل الإشتباك قائمة مع إسرائيل. كان لبنان منقسماً بين جبهتي القوى الوطنية مع قوى الثورة الفلسطينية من جهة، وقوى مؤيّدة للجبهة اللبنانية من جهة أخرى، وكانت الدولة برئاسة الرئيس الياس سركيس تحاول أن تجد دوراً لها بعد إعادة توحيد الجيش اللبناني. الإمام موسى الصدر على رغم انخراط التنظيم الذي أسّسه، «حركة أمل»، في العمل العسكري، لم ينخرط كلّياً في جبهة منظمة التحرير والحركة الوطنية، وحاول أن يكون له دور على الأرض لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعدما أيقن أن الفوضى المسلحة في الجنوب قد تعرّضه لاجتياح جديد يدفع ثمنه الجنوبيون. ولذلك سعى إلى أن يتمّ إرسال الجيش اللبناني إلى الجنوب لمواكبة القوات الدولية، واعتقد أنّ بإمكانه تسويق هذه المحاولة في عدد من الدول العربية المؤثرة في اللعبة الدائرة على الأرض اللبنانية وعلى الفلسطينيين. ولذلك بادر إلى القيام بجولة على بعض هذه الدول مطالباً بعقد مؤتمر قمة عربي محدود بهدف الضغط على الاسرائيليين للإسراع في تنفيذ القرار 425، والانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلّة، وسعياً لإنهاء محنة لبنان وإنقاذ الجنوب، وهو ما أعلنه في حديث لصحيفة «أخبار الخليج» البحرينية.




الرئيس الجزائري هوّاري بومدين والوساطة الغامضة


المحامي كريم بقرادوني


الإمام الصدر والرئيس سليم الحص


لقاء روحي في بكركي



اللقاء مع بومدين

كان لقاؤه مع الرئيس الجزائري هواري بومدين مختلفاً. بحسب معلومات نقلها إلى عدد من المقرّبين منه في لبنان بعد عودته من هذا اللقاء، كشف الإمام أن بومدين كان مسروراً ومستمعاً إلى طرحه بضرورة تجنيب لبنان مخاطر الحرب في الجنوب وفي الداخل من خلال ضبط العمل الفلسطيني المسلّح. وبدل أن يكون اللقاء رسمياً لمدّة نصف ساعة تقريباً، امتدّ لنحو أربع ساعات. بدأ اللقاء في مكتب بومدين الرئاسي شرح خلاله السيد موسى الصدر وجهة نظره تجاه مجريات الأحداث في لبنان وطرح الهدف الذي جاء من أجله. بعدما أبدى بومدين اهتماماً بطرح الصدر، انتقلا إلى غرفة ثانية جانبية. سأل بومدين الصدر ما إذا كان بالإمكان نقل تصوّره إلى الرئيس الليبي العقيد معمر القذافي. «لا مانع وأنا مستعدّ» قال له الصدر. بادر بومدين إلى الإتصال بالقذافي هاتفياً بحضور الصدر. قال بومدين للقذافي: أخ معمر. أخي الإمام موسى الصدر موجود عندي وتحدّثنا طويلاً ووصلنا إلى نقاط متفاهمين عليها، وهو يرغب في أن يحصل لقاء بينكما لينقل لك وجهة نظره. لم يمانع القذافي. قال بومدين للصدر إنه يتمنّى أن تكون زيارته إلى ليبيا المحطة الأخيرة في جولته. صحيح أن بومدين كان يدعم القضية الفلسطينية والعمل الفلسطيني المسلّح، ولكنّ الدعم الأساسي المالي كان يأتي من العقيد القذافي.



الإمام والرئيس الحصّ

علامات استفهام كثيرة ظلّت تخيّم على أجواء لقاء الصدر مع بومدين، وعلى ترتيب اللقاء بين الصدر والقذافي، والنتيجة الموجعة التي آل إليها. هل كانت هناك ضمانة من بومدين بإمكان أن يمرّ اللقاء على خير؟ هل اعتقد السيد موسى للحظة أن القذافي يمكن أن يقتنع بوجهة نظره؟ هل كان يتصوّر أنّ القذافي يمكن أن يوقف الدعم الذي يقدّمه لياسر عرفات في مرحلة كان فيها العالم العربي منشغلاً بمواجهة عملية السلام التي كانت حاصلة بين الرئيس المصري أنور السادات وإسرائيل؟ تلك المرحلة التي شهدت انقلاباً في التوازنات في لبنان وتحوّلاً كبيراً في موقف رئيس النظام السوري حافظ الأسد من الأحداث فيه؟

لم تكن حركة الإمام منعزلة وشخصية أو سرّية، ولكنّه كان حريصاً على أن يتشارك فيها مع أطراف محلية من بينها رئيس الجمهورية الياس سركيس ورئيس الحكومة الدكتور سليم الحصّ.

في 22 آب، قبل ثلاثة أيام من توجّهه إلى ليبيا، زار الرئيس الحصّ في منزله في دوحة الحصّ بين الدامور وخلدة. كان في صحبته النائب وقتها السيّد حسين الحسيني، أحد أهمّ مساعديه المقرّبين. جاءه مودّعاً ومستطلعاً، وأطلعه على أنّه سيتوجّه إلى ليبيا للقاء العقيد معمر القذافي. جلسوا جميعاً على الشرفة المطلّة على البحر وخليج الدامور. يروي الرئيس الحص أنّ الإمام قال له: «لولا ضيق الوقت لطلبت نارجيلة وقضيت جلسة ممتعة هنا». ألحّت زوجة الحص على تحضير نارجيلة ولكنّ الإمام اعتذر واعداً بالعودة لتدخينها في وقت آخر. تركز الحديث في ذلك اللقاء على الوضع في الجنوب وعلى أهمية دور الجيش اللبناني فيه، وتطرّق أيضاً إلى ما كان ورد على لسان رئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيغن بأن إسرائيل تؤمِّن حماية المسيحيين والشيعة في لبنان. بعد انتهاء اللقاء وعند خروج الإمام ندّد بقوة بهذا الزعم واعتبره كاذباً ولئيماً.



لقاء مع بقرادوني

قبل أن يتوجّه إلى الجزائر اتّصل الإمام موسى الصدر بالمحامي كريم بقرادوني، الذي كان في ذلك الوقت أحد مستشاري الرئيس الياس سركيس المقرّبين. كان الوقت متأخّراً، وكان من عادة الإمام أن لا ينام باكراً. سأله إذا كان يمكن أن يلتقيه في مبنى المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في الحازمية الذي كان لا يزال يتردّد عليه. لم يتأخّر بقرادوني في تلبية الدعوة. مبنى المجلس من طابقين وكان الطابق الثاني مخصّصاً كمنزل لإقامة السيد موسى، بينما الأول كان مخصّصاً للإجتماعات. عندما بُنِيَ هذا المبنى ليكون مقرّاً لهذا المجلس الجديد، لم تكن الحرب قد اندلعت بعد في لبنان، ولا كانت تأسّست حركة «أمل» وكانت للسيد موسى الصدر شبكة علاقات واسعة من ضمنها عدد من الأسماء المسيحية التي كانت معه في إطلاق «حركة المحرومين»، ثّم في تسمية «أفواج المقاومة اللبنانية» التي أخذت منها حركة «أمل» اسمها. كان اللقاء في الطابق الثاني في ذلك الوقت المتأخر. وكانت المرّة الأولى التي يدخل إليه بقرادوني. جلسا على الشرفة وكان الإمام نزع عباءته. لم ينتظر طويلاً حتى بدأ الحديث معه. قال له الإمام: «ربّما أنت مستغرب لماذا طلبت لقاءك؟ أنا على أبواب سفر. ذاهب إلى الجزائر ومحتمل أن أذهب إلى ليبيا. أريد أن أشرح لك الوضع وأستمع إلى آرائك ونتداول في المشهد اللبناني، وماذا يجب أن يقال في الخارج». كان اجتماعاً سياسياً قبل رحلة الإمام. كان بقرادوني مستمعاً أكثر منه متحدثاً. اختصر له الإمام المشهد وكأنّه يُطلعه على ما سيقوله في جولته. قال له: «الجنوب واقع تحت خطر الإحتلال الإسرائيلي، إسرائيل قادرة ليس فقط على احتلال الجنوب بل على سلخه عن لبنان. أهدافها في المياه واضحة، وكذلك في ضمان سلامة الجليل. وبالتالي صار الجنوب في دائرة الخطر، ليس فقط خطر الإحتلال بل خطر الفرز والضمّ ليصبح جزءاً من إسرائيل». أضاف الإمام: «أكبر سلاح معطى لإسرائيل في مشروعها هو تصرّفات الفلسطينيين. أنتم تقولون إنّ هناك دولة فلسطينية داخل الدولة أو إنّ هناك سلطة فلسطينية داخل السلطة. يا ريت هناك سلطة فلسطينية. هناك تسلّط فلسطيني. تجاوزاتهم وصلت إلى حدود غير مقبولة. إنّهم لا يقدّمون فقط الذرائع المجّانية لإسرائيل لاحتلال الجنوب، بل لضمّه أيضاً. وهم يشكّلون مشكلة بالنسبة إلى الجنوبيين الذين لم يعد بمقدورهم احتمالها».

كان طرح الإمام واضحاً ومباشراً: «اضطرّت إسرائيل لتنفيذ القرار 425 جزئياً. علينا أن نستمرّ بالضغط عليها والمقاومة لتنفيذه كاملاً. طبعاً ليس من خلال المقاومة الفلسطينية لأنّها ذريعة. بالعكس. من خلال الصمود اللبناني وإرسال الجيش إلى الجنوب. وبالتالي الضغط على إسرائيل دولياً لتكمل سحب جيشها وليحلّ الجيش اللبناني محلّ المنظمات الفلسطينية. أعتقد أنّني ألتقي مع الرئيس الياس سركيس والدولة اللبنانية في هذا المطلب. أعرف أنّ هناك دولاً عربية كثيرة لا تريد أن تضغط على الفلسطينيين، ولا توافق على هذا الطلب، وبعضها يشكّل غطاء لهم وهذا الغطاء خطر على لبنان ولذلك أنا أقوم بهذه الجولة»...



أول إمام يدخل كنيسة

كان معلوماً قبل أن يتوجّه الإمام إلى ليبيا أنّ علاقته سيّئة مع النظام الليبي وفي أسوأ أحوالها مع الفلسطينيين، وأنّه ما كان ليغامر بلقاء العقيد معمّر القذافي لولا ضمانة الرئيس الجزائري هواري بومدين.

لقد شكّل الإمام الصدر أكبر ظاهرة شيعية في سبعينات القرن الماضي. لم يكسب الطائفة الشيعية فقط، بل احتلّ موقعاً متقدّماً لدى الطوائف الأخرى خصوصاً بين المسيحيين. كان أول إمام شيعي يدخل إلى كنيسة ويخطب فيها. صارت عنده قاعدة لبنانية واسعة وقد تخطّاها ليكون له موقع خاص في العلاقة مع رئيس النظام السوري حافظ الأسد، ثم مع الكوادر العاملة من أجل الثورة ضد الشاه في إيران. كان محوراً في الحياة السياسية في لبنان. أخرج الطائفة الشيعية من العزلة والتبعية وأعطاها هويتها وصبغتها اللبنانية. واستقطب الكثيرين من الذين كانوا انضووا في الأحزاب اليسارية التي كانت ضمن الحركة الوطنية المتحالفة مع رئيس منظمة التحرير الفسطينية ياسر عرفات. كان لديه احترام في سوريا واستطاع أن يشكّل قطباً مستقلاً عن الحركة الوطنية. لذلك لم يكن من الطبيعي أن يكون في ليبيا في أواخر آب 1978 إلى جانب أركان من تنظيمات يسارية وفلسطينية كانت تحظى بدعم القذافي.

بعدما وصلته الدعوة الرسمية عبر السفارة الليبية في بيروت بدأ يستعدّ للسفر. وحضرت له الحقيبة شقيقته السيدة رباب.


***يتبع الأربعاء 6 أيلول: لا تذهب لكنه ذهب... موعد مع الغياب


MISS 3