لم ينجُ من ظلم منظومة الحكم في لبنان أي قطاع من قطاعات الحياة الأساسية والجانبية، ولم تتمكّن منظومة الممانعة المتخلّفة من تحييد أي جانب من جوانب الاحتياجات الطبيعية والضرورية للإنسان في لبنان عن حساباتها السلطوية والابتزازية، فقضت عليها جميعاً واستولت على مواردها وفوائدها، وهدرت القسم الأكبر منها على فسادها، ودمّرت بغبائها وعدم كفاءتها القسم الآخر، فأثبتت فشلها وفسادها في كلّ القرارات الإدارية، وإفلاسها الفكري والإنساني والأخلاقي في مقارباتها الاجتماعية والسياسية.
وأدّت ممارساتها لتدمير الإنتظام العام والخاص، فاتحةً جروحاً في الجسم اللبناني من الصعب اندمالها، ونزفاً خطيراً في الطاقات اللبنانية لا أمل في تعويضها. والنزف الأخطر الذي أصاب المجتمع اللبناني هجرة الشباب المُتعلّم والمُنتج والعامل. وتستمرّ المنظومة باللعب بالجرح اللبناني غير عابئة بالأضرار الناتجة عن تعنّتها وانعكاسات ذلك على التركيبة اللبنانية الحسّاسة، وكأنها بعملها الشيطاني هذا تهدف لضرب الوجود اللبناني وطرح البدائل عنه.
قد تُقدِم الأنظمة والدول والمسؤولون فيها على أخذ قراراتٍ يتبيّن لاحقاً أنّها خاطئة، تجلب الأضرار على المصلحة الوطنية العليا، ولكن بمراجعاتٍ مسؤولة وجدّية وجريئة يتراجع المسؤولون عن هذه القرارات، أو يعملون على تعديلها أو إصلاحها، هذا بحال كانت المنظومة الحاكمة مهتمّة بمصلحة بلادها وشعبها. أمّا في الحالة اللبنانية، فالحاكمون الفاسدون ومن خلفهم الدويلة يتعنّتون بممارساتهم وبقراراتهم التدميرية، ويرمون المسؤوليات على الآخرين المُعارضين لهم، ويتلذّذون بتوسيع الجراح الوطنية وبالنزف القاتل إلى درجة التضحية بالدولة وتعريض الوطن للزوال.
لسنا بحاجةٍ في لبنان للنقاش حول تحديد مسؤوليات الانهيار الشامل الذي يواجه البلاد والدولة والشعب لأن من حكَمَ البلاد لسنواتٍ لم يُبالِ بالدفاع عن نفسه بالحجج والمنطق ضد انتفاضة الشعب ضد حِكمه، بل جلّ ما سعى إليه إسكات الشعب وابتزازه لإبقائه محكوماً من قبله، ولسنا بالطبع بحاجةٍ للنقاش حول أسباب النزف. فالمنظومة تتباهى بقدرتها على تطفيش الفئات المُنتفضة لحرّياتها ولحقوقها.
ما نحن بحاجةٍ له لوقف النزف المُستمرّ، هو وضع حدٍّ لألاعيب المنظومة وطروحاتها الهادفة لجرّ الأطراف السياسية المُعارضة إلى حفلة محاصصاتٍ جديدة تُبقي الوضع في لبنان تحت رحمة الدويلة والمنظومة التابعة لها، وعلى كلّ طرف يسعى مُجدّداً للدخول مع المنظومة بحواراتٍ تسووية أن يُدرك أنّه سيتحمّل مستقبلاً المسؤولية الكبرى للمساهمة في إبقاء النزف المستمر في الجسد اللبناني، تماماً كما يتحمّل الآن غيره هذه المسؤولية، عندما انجرّ أفرقاء سياسيون للتسوية مع المنظومة ذاتها في الفترة السابقة.
النزف مستمرّ مع بقاء المنظومة في أماكنها، والنزف مستمرّ مع الذهاب إلى حواراتٍ تُبقي المعادلات كما هي «فساد ودويلة»، والنزف مستمرّ بالمهادنة مع المنظومة بحجّة عدم القدرة على انتخاب رئيس للجمهورية من دون موافقتها، والنزف مستمرّ بالتبادل مع «حزب الله» بالأوراق والطروحات تحت أي مُسمّى وضمن أي معادلة وبدائل، والنزف مستمرّ بالبقاء على الحياد في معركة الإنقاذ من المنظومة، والنزف مستمرّ بالتشاطر للدخول إلى تسوياتٍ للخروج من الأزمة الحالية بحماية المنظومة من الحساب.
والنزف يتوقّف باحترام الدستور والديمقراطية والقناعات المتبادلة والحرّيات والنتائج الانتخابية، والنزف يتوقّف فقط بإنزال المنظومة من عليائها ومن سلطويتها إلى الشراكة الوطنية الحقيقية. والنزف يتوقّف بتحرير لبنان من أسباب جراح «محور المُمانعة المتخلّف».
(*) عضو تكتّل «الجمهورية القوية»