باتت المواجهة في لبنان في السنوات الأخيرة واضحة المعالم أكثر من أيّ وقتٍ سابق، نتيجة الإختلاف الجذري الشديد بين قطبيّ النزاع، أي «حزب الله» من جهة، بما يُمثّل من مشروع استراتيجي أيديولوجي فئوي وتوسّعي وإلغائي، غير مُعترف بالحدود الرسمية بين الدول والسيادات، وبالفروقات الطبيعية بين الشعوب والبيئات، وبين حزب «القوات اللبنانية» من جهة أخرى، بما يُمثّل بدوره وتاريخه النضالي الثابت بالدفاع عن وطن الأرز بمميّزاته وبإرثه، والذي سبق بوجوده نشوء دول المنطقة وأيديولوجياتها وأصولياتها الفكرية والعقائدية والدينية. ولأنّ حتميّة المواجهة لا تنتظر الإعتراف بها من أحد، كونها مواجهة كيانية بين طرفين متنازعين ومتضاربين ومتناقضين ومتواجدين على ذات الأرض، فلن يوقفها إلا الغلبة لأحدهما، أو استسلام أحدهما. وعبثاً يحاول الوسطاء التبسيط من حدّية وجدّية المواجهة وعمقها الوجودي، وعبثاً أيضاً تُطرح الحلول التسووية، فلن تنجح محاولاتها بمعالجة المسألة، طالما استمرّ الطرفان القطبان في التمسّك بقناعاتهما وهويتيهما الفكرية والثقافية. وإذا كانت المواجهة السياسية لا بد منها بينهما، فهروب أحد الطرفين فقط يمنعها، وهذا ليس بالطبع من شيم القطبين المتنازعين. أمّا الإحتمالية الوحيدة المتبقّية، فتنحصر بتراجع «حزب الله» عن مشروعه التوسّعي والإلغائي، لأنّه لا خيار لطرف «القوات اللبنانية» إلّا الدفاع عن الوجود الثقافي وعن البيئة والهوية، مع عدم الشكّ، بأنّ المشروع التوسّعي الإيراني هو المتعدّي.
يسعى البعض من المنطلقين من أمجادٍ باطلة والعاشقين للأدوار المرحلية، إلى محاولة ثني «القوات اللبنانية» عن تصلّبها، مسدّدين النصح لها بالبحث عن أنصاف الحلول، والدخول في منطق التسويات. فخوفهم على أدوارهم، في حال تصاعدت العواصف والمواجهات، يجعلهم عاشقين للحلول التقليدية، التي بالعودة إلى التاريخ القريب لهذا البلد، نجد أنها نقلت لبنان من سابق أمجاده إلى أحواله الإنهياريّة الحالية. وتصبّ هذه الفئة من السياسيين كامل جهودها باتجاه قيادة «القوات»، متجنّبةً الضغط على «حزب الله» لخشيتها من غدره، فإنّ فِعل الإغتيالات والقتل والغزوات قد قام بدوره عندهم وقد أعطاهم بما يكفي من العبر.
ويتوهّم القابعون في تموضعات الوسط، بين الوطن والدُويلة، بأنّ تموضعهم هذا يحميهم من شرّ المواجهة الكبيرة الجارية بين القطبين، متناسين أنّ دورهم لا يجب أن ينحصر بتأمين مصالحهم وأدوارهم، لأنّ الأهمّ من كل ذلك، إستمرارية الوطن للأجيال القادمة، أي أولادهم، وأنه بنظرة سريعة على الأحداث السورية والعراقية واليمنية، يستطيعون تبيان أوضاع شعوب تعاطت قياداتها السياسية بأنانية، فأوصلت عائلاتها ومجتمعاتها وأهلها إلى أدنى مستويات العيش على الكرة الأرضية. إنّ المتموضعين في الوسط بين هذا المسار الإنهياري، وبين المسار الآخر الطبيعي للبشرية من التطور والإزدهار، يشاركون بشكلٍ كبير في دفع شعب لبنان إلى الذلّ، وقد قال الكاتب والمفكّر اللبناني شكيب إرسلان «يُفكّر المسؤول الوطني بالأجيال القادمة، أمّا السياسي العادي فيفكّر بالإنتخابات القادمة». تلك المعايير التي انتهجها سابقاً الكثيرون من السياسيين، والتي يدعو البعض منهم إليها الآن، تدفعهم إلى الخضوع للقطب الإلغائي، الذي يضمن لهم أدواراً خادمةً له، ولكنه يسلبهم مستقبل وطنهم، ويُهين كرامتهم ويُصادر هويتهم.
الجرأة السياسية لا نقاش حولها، فهي اليوم وقوف وصمود مع القطب الذي نذر نفسه لصدّ قطب الإجرام والذلّ والقمع والتخلّف.
(*) نائب في تكتّل «الجمهورية القوية»