جيمي الزاخم

عرش الخطّاطين يُزلزِلُه الطوفانُ التكنولوجيّ؟

8 أيلول 2023

02 : 01

من أعمال وليد الدّاية

عندما وصلت آلة الطباعة بالحرف العربي إلى السلطنة العثمانية، خرج الخطّاطون إلى شوارع إسطنبول ناقمين صاخبين. حملوا على أكتافهم نعشاً ملأوه بالقصب المُستخدَم في الكتابة. إرتعدوا من موت الخط العربي واندثار مهنتِهم. مُذّاك، مرّت مئات السنوات. سقطت إمبراطوريات. تبدّلت حدود وتغيّرت بلاد. مرضَ الحرفُ العربيّ وانقلبَ حالُ خطّاطيه. هؤلاء يخُطّون بعينهم الثالثة وإصبعهم السادسة. يعزفون سمفونيات من إبداع وحياة تتلوّن كآلة موسيقيّة. ومع تطوّر الآلات، هل تبقى بحّةُ القصب لقمةً للإبداع وبطانة تغطّي كل التقنيات؟




من أعمال وليد الدّاية


«الخط مخفيٌّ بتعاليم أستاذه»

تعلّم الخطّاط رياض أشئش أصول هذه المهنة وقواعدها من أمّهات الكتب، المراجع، الكرّاسات. درّب يدَه بيدِه. عشق عرش الحروف وكرّس أصابعه أعمدة. «لتعلّم حرف واحد، نحن بحاجة لوقت طويل ودراسةٍ معمّقة». في حديثه لـ»نداء الوطن»، يصف رحلتَه في هذا المجال، منذ 35 سنة، بالمغامرة اليومية للاكتشاف والتعلّم والتطوّر. يغوص الخطّاط في أغوار كهوف لا عمق لها. من أنواع الخطوط المتشعّبة، يفضّل أشئش الخطّين الديواني والفارسي. الأوّل يتميّز بالمرونة والانسيابية. يُشبّهه بـِ»فتاة رشيقة تؤدّي أجمل وصلات رقصها». أمّا الثاني، «فبقواعده الصعبة ومساره الليّن»، يتأمّله كَـ»فتاة كاملة الحُسن». الخطوط وأنواعها هي بيوت بعشرات الغرف. لكلّ غرفة خصوصيتُها وضيوفها. يُكنّى الخط تبعاً لشكله، حجمه أو منطقة نشأته. يتجلّى عشقه اللّغة مع خطّها. لا يسيران إلّا متيّمين متكاتِفين. و»رغم القواعد المشتركة والثابتة لكلّ نوع»، غير أنّ لكلّ رسمة فوارق وخصائص تدلّ على شخصية الخطّاط، براعته وروحانيّته: «الخطّ مخفيّ بتعاليم أستاذه».



من أعمال وليد الدّاية



يُخبرنا عن تراجع مدخول مهنة هي مصدر رزقه. يستلذّ بشرش حلاوتها مع زبائن يتذوّقون الفنّ. يقصدونه لخبرته وتاريخه واسمه الذي يتجاوز الزمن وتغيّراته.»الإنترنت سهّل ووفّر الوقت للتعلّم». لكنّ التكنولوجيا متمثّلةً بالكومبيوتر فتحت البابَ لغير المختصّين التجاريين لا الفنّانين. «الخط بواسطة الحاسوب ينزع الروحية. أنا أدير هذه الآلة، لكن وفق قيودها. ويبقى الأساس ما خططتُه في البداية». يلجأ إلى الآلة عند تنفيذ الملصقات للسيارات وواجهات المحال الزّجاجية.

تتشكّل حياة «المعلّم رياض» مع الحركات. تُسمَعُ الهمسات من شفاه الهمزات. «ما بحكي عن الخطّ إلا من خلال الشعر». هذا فنّ تتخمّرُ فيه ومن خلاله عناقيدُ تكوين وتفريغ الذات في وقت التأمّل والتبحّر. يحاوط رياض الخطَّ نقطةً نقطة. يستيقظ قبله. يؤمّن له كل متطلّبات الراحة والبراعة. يجهّز قصبةً يَبريها. تُغَطّ بحبر عربيّ يحضّره في محترفه. ثمّ يسكب زلالَ البيض على الورق العاديّ. مع التشذيب، التدليك والتجفيف المتخصّص، يتحوّل ورقاً ناعماً عازلاً للرطوبة. يُسمّى «الورق المقهَّر» الذي يستقبل القصبة وقصتها وخطّها العربي الذي أدرجته منظمة «اليونيسكو» عام 2021 ضمن قائمتها للتراث غير المادّي. ما يسمح بالحفاظ على هذه الممارسة الفنّية القديمة وحمايتها من الاندثار والزوال.



من أعمال وليد الدّاية



«الإستمرارية مع المعاهد لا المعارض»

ينطلق المهتمّ والناشط بهذا الفنّ وليد نصّوح الداية، بحديثه من مدينته طرابلس الشهيرة بروّادها الخطّاطين. فتَنَتْه معاملُها الأثرية المكلّلة بخط عربيّ يعكس حقباً سياسية وتاريخية متفرّقة. يعود إلى منزل والِدَيْن أصرّا- ككثر في ذاك الزمن- على ضرورة إجادة كتابة الخط العربيّ الذي كان من أساسيات المنهج التعليميّ. يمرّ على مقاعد مدرسته مع أستاذ اللغة الفرنسية الذي كان يخطّ اسم التلميذ النجيب على اللوح بطريقة فنّية تكافئ وتكرّم.

يعرّف عن نفسه كهاوٍ لم يمتهن شغفه. بدأ يجول بموهبته على الحروف منذ قرابة الأربعين عاماً. اتّخذ الخطَّ نمطَ عيش. زخرف به منزلَه ليحيط جدرانه بما يشبه روحه التي تحنّ إلى كلّ جميل. يخطّ فقط بالخطّ الكوفيّ التربيعي. هو خطّ هندسيّ بامتياز. يستلزم استخدام المسطرة، القلم والبيكار. «الكومبيوتر في هذا النوع من الخطوط يؤدّي إلى نتيجة مُتقَنة أكثر: الآلة تنفّذ الفكرة المولودة على الورقة». يؤكّد أن اللجوء إلى الآلة حتميٌّ لتنفيذ طلبات تجارية مع ضغط الوقت. لكنّه يعتب على الفنانين الخطّاطين الذين «انتقلوا من الغزّار إلى الأزرار». فاستعاضوا عن القصبة والموهبة بآلة تجمع الحروف والأشكال وتطعن الهويّة والجمال. فتكون النتيجة هي «أعمال نقل وليس أعمال عقل». يستثني قلّةً تُتقن الدمج. فينصهر إبداعُ يدها مع الحاسوب. لا تتعرّى من الرعشة، اللمسة، الرائحة والقيمة. الأخيرة يُبخَسُ حقُّها مع محال تجارية تؤمّن نماذج معلّبة مع خطوط جاهزة ببرامج تقنية مسهّلة: «هودي طبّاعين مش خطّاطين».



بِقَصَبة رياض أشئش



يحضّر الداية كتاباً عن تاريخ طرابلس وخطّاطيها. هؤلاء تأثّروا جغرافيّاً بخطّاطي سوريا، وسياسياً ودينياً بتركيا مع حكم السلطنة العثمانية التي أتت بعد حقبة المماليك وقبلها العصر الفاطميّ. يستبشر خيراً بمواهبَ شابّة حقيقية في مهنة تراجعت كثيراً في لبنان. «ولكن مكانة الخط العربيّ حُفِظت وتنمو مع أجيال في سوريا قبل أزماتها، وفي إيران، وتركيا، ومصر». يشدّد على أنّنا بحاجة إلى «معاهد لا معارض». الثانية تحيط بالفنّ للحظات. أمّا الأولى فتدرّب، وتحفّز وتخرّج طلاباً يؤمّنون الاستمرارية.

فنّ الخط حاضرٌ في كل المناسبات. يشارك في الأتراح. يذرف الدمعة الأولى على أوراق النعوة السوداء. وهو أوّل المدعوّين إلى الزفاف مع بطاقة الدعوة «التي غالباً ما تُمزج حروفها بالخط الديواني المبشّر بالعشق والتناغم والاتّحاد. فالخط يكلّل النص ويُحرَّم الخروج من حَرَمه ومعناه». قال عنه ابن خلدون إنّه «صناعة شريفة. تتأدّى بها الأغراض، لأنّها المرتبة الثانية من الدلالة اللغوية». هو فنّ لا تَسقُطُ الجملةُ عن مَنكِبَيْه. يحملُها. يجمعُ ألف الوصل. يبني من خشبها جسراً ليعبر الزمان ويزيّن المكان. يرتجف الجسر. لكنّ المُختارين يحاولون ترميمَه ليصلوا إلى الحجر الذي يصنعون منه كحلَ العين واللغة. فتخرج الجملة من تحت أياديهم- وبالإذن من حبيبة الشاعر طلال حيدر- «مكحّلة، والكحل راسمْها رَسِم... ومشنشلة متل الفَرَس، بإيدها أساور من دهب، بتخشّ، وبيدور الطرب ليوم القيامة».


MISS 3