عندما تمّ الإعلان عن موعد إصدار الحكم في ذلك اليوم لم يكن العالم قد دخل بعد في الحرب الشاملة مع فيروس كورونا. هذه الحرب استوجبت إجراءات جديدة في عمل المحكمة الدولية التي فرضت أيضاً موجبات التباعد الإجتماعي. القضاة يواصلون عملهم بسرية تامة ولكن لا جلسات في مبنى المحكمة، فيما يعمل مجمل موظفيها عن بعد استناداً الى قرار اتخذته السلطات المعنية في هولندا ولبنان والولايات المتحدة الاميركية، إسهاماً في الحد من انتشار "كوفيد-19" وحرصاً على سلامة الموظفين وأمنهم الصحّي وصحّة عائلاتهم.
من أجل العدالة والإستقرار
المحاكمة التي بدأت في كانون الثاني 2014 انتهت عملياً في 20 أيلول 2018 من دون الإعلان وقتها عن موعد إصدار الحكم. 457 جلسة و3132 بيِّنة و151000 صفحة من المستندات والإفادات التي أدلى بها نحو 323 شاهداً، كان على هيئة المحكمة أن تنكبّ على مراجعتها ودراستها والتدقيق فيها وتقييمها، من أجل أن يأتي الحكم متكاملاً ومدروساً ومقنِعاً لا يمكن التشكيك فيه بسبب الحرب التي قامت على المحكمة، ولأن المتهمين المنتمين إلى "حزب الله" لم يتمّ توقيفهم وجرت محاكمتهم غيابياً في ظلّ تأمين حقوق الدفاع عنهم كاملة، مراعاة لحسن سير العدالة التي اعتمدت المحكمة الدولية أعلى المعايير فيها.
بالإضافة إلى مسألة أزمة كورونا العالمية، ثمة جانب آخر يمكن أخذه في الإعتبار وهو الوضع الداخلي في لبنان وحرص المحكمة على ألا يكون لأعمالها نتائج وانعكاسات سلبية على الإستقرار العام. فعندما انتهت الجلسات وتمّ الإعلان عن رفعها بانتظار إصدار الحكم في أيلول 2018 كانت نسائم التسوية الرئاسية تسيطر على الوضع العام في لبنان، وكان الرئيس سعد الحريري يتخطّى مفاعيل الحكم وحيثيّات القضيّة ووقائعها وضلوع عناصر من "حزب الله" في التخطيط لها وتنفيذها من أجل الوحدة الوطنية، التي اعتبر أنها تأتي في المرتبة الأولى. أما اليوم وقبل أيام من الموعد المضروب أصلاً لصدور الحكم تبدّلت الأحوال والمواقع والسياسات.
بطبيعة الحال ووفق نظام المحكمة، تتولى رئاستها مهمة التواصل مع المسؤولين اللبنانيين والمجتمع الدولي من أجل تأمين الظروف المناسبة لعمل المحكمة، وتلافي أي انعكاسات سلبيّة على الوضع العام. وفي التقرير السنوي الحادي عشر الذي أصدرته المحكمة عن نتائج أعمالها بين أول آذار 2019 وآخر شباط 2020، ذكرت أن "الربع الأخير من العام 2019 شهد تأثر القدرة العملانية لمكتب المدعي العام بالوضع السائد في لبنان، فحدث تأخير في الحصول على المعلومات بواسطة طلبات المساعدة التي ترسل رسمياً إلى لبنان وأُجّلت معظم البعثات المقرر القيام بها في لبنان".
ولكن على رغم ذلك فقد أكدت المحكمة استمرارها في تسيير كافة أعمالها. وفي أيلول 2019 أعلنت أن قضايا محاولتي اغتيال الوزيرين مروان حماده والياس المرّ وعملية اغتيال جورج حاوي تدخل ضمن صلاحياتها واختصاصها، لأنّها متلازمة مع القضيّة الأساسيّة التي أنشئت من أجلها وهي قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهي ستحدّد الوقت الذي ستبدأ فيه المحاكمة في هذه القضايا التي اتّهمت فيها أيضاً سليم عيّاش المتهم الرئيسي في اغتيال الحريري. وبالتالي فإنّ المحكمة إذ تنتهي من محاكمة عيّاش في القضية الأولى ستكمل عملها في محاكمته في القضايا التالية، وهي تؤكد دائماً على أنها تستمرّ من أجل تحقيق العدالة. وقد ذكرت في تقريرها السنوي الأخير ما يلي: "ومع اقتراب موعد صدور الحكم في قضية عيّاش وآخرين، وبعد تصديق قرار الإتّهام في القضية المتلازمة، تدرك المحكمة الدور الذي تؤدّيه في لبنان والمنطقة والمجتمع الدولي عموماً، وهي تواصل في هذا الصدد الإعتماد على الدعم السياسي والمالي والتشغيلي السخي الذي تقدِّمه الدول لأنّ الدعم الدولي أمر أساسي. ويعرب قلم المحكمة عن أشدّ الإمتنان لهذا الإلتزام المستمر، وسيواصل حشد الدعم الواسع لولاية المحكمة. ومن هذا المنطلق، يواصل قلم المحكمة التطلع إلى المستقبل ويرحّب بالتعاون مع جميع الأطراف المعنية على الصعيدين الداخلي والخارجي، لمساعدة المحكمة على المضي قدماً في استكمال ولايتها".
من يطلب تأجيل الحكم؟
هذا الواقع الذي تعيشه المحكمة يمكن أن يطرح تساؤلاً عمّا إذا كان الأمين العام للأمم المتحدة من خلال متابعته لما يحصل في لبنان، خصوصاً مع الدور الفاعل الذي يقوم به ممثله يان كوفيتش وقراءته لمسار الأحداث، هل يمكن أن يطلب من المحكمة مثلاً أن تؤجّل إصدار الحكم خوفاً من أن تكون له تداعيات سلبية على الإستقرار الداخلي، على ضوء الإحتقان الذي يسود الشوارع الطائفية والمذهبية وعلى ضوء التظاهرات والتفلّت الأمني؟ وهل يمكن أن تطلب الحكومة اللبنانية مثل هذا الأمر أيضاً؟ وما هي الإجراءات التي يمكن أن تتّخذها للتعامل مع هذا المعطى الجديد؟
بطبيعة الحال قد يأتي مثل هذا الطلب من الأمين العام للأمم المتحدة، ولكن من الصعب أن يصدر عن هذه الحكومة التي يعتبر المجتمع الدولي أنّها حكومة "حزب الله" وتنفذ قراراته. ذلك أن حيثيّات المحاكمة باتت معلومة وأن الحكم لن يضيف إلى الوقائع معلومات جديدة غير معروفة، وبالتالي فإن نصّه النهائي بات بحكم المنتهي ولكن الجديد غير المعلوم فيه يتعلّق بالنصّ الحكمي وبحصر التهم بالمتّهمين وحدهم، وإن كان سقف العقوبات التي يمكن أن يُحكمَ بها معروف وهو لا يصل إلى الإعدام، ولذلك من المستبعد أن تكون هناك مفاجآت في الحكم والمفاجأة الوحيدة التي يمكن توقعها هي تأجيل صدوره.
"حزب الله" غير مهتم؟
حتى "حزب الله" لم يعد يكترث كثيراً بما سيحمله هذا الحكم. فهو من البداية تعاطى مع المحكمة على أساس أنها من ضمن "المؤامرة الأميركية الصهيونية" عليه وأنّه بريء من التهم الموجّهة إليه، وأن المتّهمين بها قدّيسون لا يمكن أن يتمّ القبض عليهم لا في خلال سنة ولا بعد مئة سنة، وأنّ إسرائيل هي التي اغتالت الحريري وزوّرت الأدلّة كي تذهب التهمة في اتجاهه، وأن الدليل على تواطؤ المحكمة الدولية هو كيفية انتقال الإتهام من النظام في سوريا إلى "حزب الله"، وعلى أساس أن دليل الإتصالات الهاتفية لا يمكن الركون إليه لأن إسرائيل قادرة على اختراق شبكات الإتصالات اللبنانية وتزوير الحقائق. وكان الأمين العام لـ"الحزب" السيّد حسن نصرالله قد أعلن في مرافعاته المتلفزة كيف أن إسرائيل كانت تراقب الرئيس رفيق الحريري وهي التي اغتالته.
الحكم انتهى عملياً وقد صدر قبل أن يكتب بنصه النهائي ولكن المحكمة مستمرة. بعد 15 عاماً على عملية الإغتيال قد لا يبدّل الحكم كثيراً في واقع الأمور. فـ"حزب الله" اليوم باتت لديه قدرات عسكرية أكبر وهو منخرط في الصراع العسكري في سوريا والعراق واليمن، وباتت لديه ايضاً قدرات صاروخية كبيرة لا يتردّد في الإعلان عنها ويعتبر أن هذا الحكم لا يؤثر عليه وأنه بات وراءه، وأن قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري تجاوزها الزمن وتخطّتها الأحداث، وأن المحكمة الدولية وإن تابعت أعمالها وانتقلت إلى محاكمة سليم عيّاش المنتمي إليه وغيره، لن تبدل في مساره السياسي والعسكري وأن ما يقوم به في لبنان والعالم لن يتوقّف مهما كانت التهم ومهما كانت الأحكام. وأنه إذا كان اغتيال الرئيس الحريري نتيجة تحميله مسؤولية القرار 1559 الذي طلب نزع سلاح "حزب الله"، فإنّ سلاح "الحزب" لم يعد مقتصراً على لبنان فقط بل بات منتشراً في أكثر من دولة وأنّه زاد عشرات المرّات، وبالتالي بات يحتاج إلى أكثر من مجرّد قرار يصدر عن مجلس الأمن. وهو بالتالي لا يتطلّع إلى الهدف الأساسي الذي كان وراء إنشاء المحكمة وهو تحقيق العدالة وعدم الإفلات من العقاب، طالما يعتبر أنه فوق المساءلة ولا يمكن أن يطاله أي عقاب.
حتى لو صدر هذا الحكم في موعده المحدد بعد خمسة عشر عاماً وإن لم يتضمن مفاجآت في الوقائع والعقوبات فإنه سيكون حكماً تاريخياً في سابقة لم يشهدها العالم من قبل من خلال المحكمة التي نظرت للمرة الأولى في قضية جنائية من هذا النوع. وهو سيكون رداً على كل الذين شككوا في عمل المحكمة ودورها.