د. سامر حنقير

مِن البَزّة القتاليّة إلى البَدلة الرسميّة إلى شهيد الجمهوريّة

13 أيلول 2023

02 : 00

بعدما دوّى الانفجار الذي أودى بحياة الرئيس اللبناني المُنتَخَب بشير الجميّل في 14 أيلول 1982، سادت حالة من الذهول ونُكران الحقيقة المُرّة داخل البيئة التي أحبّته وحمّلته كل هَواجسها التاريخية وأحلامها المُستقبليّة. فظهر إعلامي على الشاشة الصغيرة ليقول: الرئيس المُنتَخَب بخير، وخرج إنسان آخر لِيُخبر بأنه رأى بشير بأمّ العين وأنه لم يُصَب بأيّ أذىً. وبقيت حالة الترقّب والقلق سائدتين حتى المساء حينَ أذاع منصور عون بصوته الجَهوريّ عبر أثير «صوت لبنان» الخبر: «بشير الجميّل، وَداعاً».

وَقعُ النَبأ على القسم الذي أحبه من اللبنانيين كان أقسى من دويّ الانفجار نفسه، فانهار هذا باكياً، وأخذ ذاكَ يرطم رأسَهُ بالجدران، وعمَد آخر إلى النزول إلى الشارع ليصرخ رافضاً الاعتراف بأنّ البطل يموت! أمّا القسم الذي أبغضه وخَوّنَه من اللبنانيين فَشمتوا بموت بشير وبوَجع الشعب الذي أحبه، وتَهَلّلوا، واعتقدوا أنهم بموتِهِ باتُوا على قابِ قَوسَين من فَتح القُدس بانتصارٍ عظيم!

مشكلة اللبنانيين أنهم لا يُريدون التعرّف إلى حقيقة بعضهم، ولا الاعتراف بأنهم ما زالوا يتصرفون كجماعات مُتمايزة، بل مُتَنافرة تتقاسم الأرض نفسها، ويرفضون الإقرار بأنّهم مُختلفون على أمور جوهرية من بينها الهويّة والانتماء وكيفية التعاطي مع العدو والصديق وتصنيف مَن يكون العدو ومَن يكون الصديق، والسياسات الخارجية والدفاعية ودور الدولة في الاقتصاد وإدارة المجتمع، والقوانين التي يجب تَبنّيها وكيفية تطبيقها، وصولاً إلى المفاهيم الفلسفية المرتبطة بحرية الإنسان وبالحياة والموت!

ولذلك، يرفضون احترام شهداء بعضهم البعض، والتَحسُّس بمُعاناة بعضهم البعض، وتَفَهُّم الخلفيّات والمَوروثات والسَرديّات التي تحملها كل جماعة. إنقسامُهُم مُريع وقُدرتهم على التجريح ببعضهم البعض مُرعبة! هكذا أظهرت الوقائع، من دون أن يعني ذلك عدم إمكانية السعي (المُضني طبعاً) لإيجاد صيغة لاتحادهم بطريقةٍ ما.

في بلدٍ مَفتوحٍ على كل أشكال التدخلات والمُؤثّرات نتيجة هَشاشةِ مجتمعه وضعف دولته، لا يُمكن أن تكون دوافع اغتيالٍ بهذا الحجم داخلية فقط، كما يحاول إقناعنا هؤلاء الذين يُمَجّدون عمليات القتل والثأر بحجة الاقتصاص من «الخَوَنَة» ويتباهون بما اقترفت أيديهم! هؤلاء ليسوا أكثر من مُجرّد وسيلة قَتل بعدما انحرفوا عن المَسار الفكريّ الصرف لعقائدهم بفعل الاستغلال والتحريض ليتمّ تسخيرهم لتنفيذ أعمال مُخابراتيّة عنفيّة ودمويّة. يُشبهون بسلوكهم بالأمس ما تفعله التنظيمات الدينيّة الأصوليّة اليوم حين تُكَفّر الناس وَتُحلّل سَفك دمائهم وتَتَفاخَر بجرائمها!

كانت حركة بشير السياسية سريعة جداً ومن الصعب تَوَقّعها ويُمكنها أن تُهدّد الخطوط المَرسومة والتي يُمنَع على زعماء الداخل تَخطّيها، تُضافُ إليها شخصيّته كشابّ مَليء بالحياة وَمُفعم بالحيويّة والقدرة على التأثير في الأحداث، بل وفي تغيير الذهنيّات. فالإدارة الأميركية التي كانت ترفض التعامل مع بشير بِحُجّة أنه رئيس ميليشيا خارجة عن القانون صارت مؤيّدة له، بل وداعمة لوصوله لرئاسة الجمهورية، والرئيس النظيف الكفّ الياس سركيس الذي كان يصطدم ببشير أمام كل مُنعطف سياسي خطير باتَ مُتَحمّساً له ومُتعاطفاً معه إلى درجة أن يطلب منه الإقامة إلى جانبه في القصر الجمهوري خوفاً على حياته، والزعيم المُسلم صائب سلام الذي كان يرى ببشير شخصية مسيحية مُتَعصّبة ومُجرم حرب فوجئ بشخصيّة بشير التي اكتشفها بعد لقائه به وأعلنَ عن تفاؤله بإمكانية التعاون معه من أجل إنقاذ لبنان من محنته، والإدارات الرسمية التي كانت سائبة وتعيش بالفوضى انتظَمَ العَمَل فيها تحت تأثير هَيبة الرئيس الجديد حتى قبل أن يتبَوّأ سُدّة الرئاسة بشكلٍ رسمي.

باختصار، ومن دون سواه من زعماء الحرب، كان بشير قادراً على تحقيق تلك النَقلَة النوعيّة في الأحداث والعلاقات للمضيّ قدماً نحو بناء الدولة. كلها عوامل أثارت الريبة لدى مَن يرسم الخطط ويُحدّد الأدوار في هذه المنطقة من العالم. بعد واحدٍ وأربعينَ عاماً على ذاكَ الرابع عشر من أيلول، ما زال بشير الجميّل حيّاً عند مَن أبغضَهُ ومَن أحبّه على السواء. ويكفي أن نتأمّل بمَسار الأحداث الدراماتيكيّة التي عصفت بلبنان منذ ذلك اليوم لِنُدركَ الهدف من اغتياله.

(*) أستاذ جامعي


MISS 3