أدريان كارتنيكي

بعض الأوكرانيين يساعدون روسيا على قتل مواطنيهم في سبيل المال

أوكرانيا...تاريخ طويل وقذر من الخيانات

14 أيلول 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

اعتقال رجل مشتبه به بأنّه متعاون مع روسيا خلال عملية في خاركيف | أوكرانيا، 18 نسان 2022

بنديكت أرنولد، فيدكون كويزلينغ، فيليب بيتان: إنها أسماء أشهر الخونة والمتآمرين مع العدو في تاريخ أوكرانيا. يبدو أن وجوهاً جديدة بدأت تأخذ مكانهم الآن في الحرب الروسية الأوكرانية المستمرة، مع أن معظم الأسماء لا تزال خفية خارج أوكرانيا.



منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991، يعجّ تاريخ أوكرانيا بعد نيل استقلالها بالخيانات. عثر القادة الروس منذ البداية على من يساعدهم لتخريب الدولة الأوكرانية والتسلل إلى مؤسسات الأمن القومي بعدما امتعضوا من انفصال أوكرانيا عن موسكو.

لكن من هم الأوكرانيون الذين انقلبوا ضد بلدهم؟ كان بعضهم مقتنعاً بوحدة الشعبَين الروسي والأوكراني وبخطاب الكرملين الإمبريالي القائم منذ قرون، فوجدت روسيا داعمين لها في البلد الذي كانت تستعمره، مثلما وجدت الإمبراطوريات القوية السابقة من يدعمها وسط الشعوب التي احتلتها. في المقابل، كانت فئة أخرى من الأوكرانيين تكنّ إعجاباً خاصاً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وسياساته الاستبدادية، ونجاحاته الاقتصادية في العقد الأول من عهده. وكان أول عقدَين بعد انهيار الاتحاد السوفياتي شائبَين في أوكرانيا لدرجة أن يتوق بعض الأوكرانيين إلى نشوء حُكم صارم ويؤيدوا حصول تحالف سياسي واقتصادي مع موسكو.

انطلاقاً من هذه القناعات غير الوطنية، تجاوز بعض الأوكرانيين الخطوط الحمراء وقرروا دعم محاولات روسيا لتدمير أوكرانيا. حتى أن البعض ذهب إلى حد العمل لصالح الكرملين كجواسيس، أو مخبرين، أو عملاء مؤثرين. ويبدو أن جزءاً كبيراً من المتآمرين اليوم في المناطق الأوكرانية التي تحتلها روسيا هم سياسيون سابقون من «حزب الأقاليم» الأوكراني الموالي لروسيا، علماً أنه خسر الدعم الشعبي سريعاً بعد أول غزو روسي في العام 2014 وحظرته كييف أخيراً في شهر شباط الماضي. في غضون ذلك، يقال إن الأوكرانيين الذين يدعمون تدمير روسيا لبلدهم هم على صلة بأقرب حليف أوكراني لبوتين، وهو الأوليغارشي الخاضع للعقوبات الأميركية فيكتور ميدفيدشوك الذي يقيم راهناً في روسيا لكنه جزء من عمليات الكرملين على خط المواجهة في أوكرانيا منذ بداية الألفية الثالثة.

على صعيد آخر، يدعم بعض الصحافيين الأوكرانيين موسكو كونهم وجدوا وظائف برواتب مرتفعة في وسائل الإعلام الموالية لروسيا والممولة من الدولة الروسية ومن أوليغارشيين على صلة بالكرملين، علماً أن تمويل تلك المؤسسات يبقى أفضل بكثير من وسائل الإعلام الأوكرانية المتخبطة التي عمل فيها هؤلاء الصحافيون سابقاً. هذا الخيار جعل عدداً كبيراً منهم يصل إلى مراتب مرموقة، فتحولوا إلى جزء من منظمي الحملة الدعائية في روسيا، حيث ينشرون اليوم مواقف إلغائية ومشحونة بالكره ضد شعبهم.

في الوقت نفسه، قرر حكام المناطق والأقاليم في المناطق المحتلة أن يعيدوا توجيه مهاراتهم خدمةً للنظام الجديد. أخيراً، يتعلق جانب أكثر تعقيداً من مفهوم الخيانة بالأوكرانيين المتواجدين في الأراضي المحتلة، فقد أصبح هؤلاء مجندين قسراً في وحدات عسكرية روسية أو خاضعة للسلطة الروسية، وهم يشاركون في محاربة المواطنين الأوكرانيين.

قد يكون تعريف الخيانة شائكاً، إذ تُستعمل كلمة «خائن» في معظم الأوقات لوصف الخصوم السياسيين أو أي شخص غير وطني. خضع القانون الأوكراني للتعديل بعد فترة قصيرة على بدء الغزو الروسي في العام 2022، وهو يُعَرّف «خيانة الدولة» باعتبارها «أعمالاً مقصودة يقوم بها المواطن على حساب سيادة أوكرانيا، ووحدة أراضيها، وقدراتها الدفاعية، أو أمن دولتها، أو اقتصادها، أو معلوماتها». حتى أنه يُجرّم من «ينضم إلى معسكر العدو في زمن الصراعات المسلحة» ويشمل «التجسس» والمشاركة في «نشاطات تخريبية». تبدأ الأحكام ضد الخونة بالسجن طوال 12 سنة وتطول هذه المدة في زمن الحرب.

اليوم، يهلل بعض الصحافيين الأوكرانيين عند مقتل مواطنيهم. أصبح فلاديمير كورنيلوف، العميل القديم لروسيا، ضيفاً شبه يومي في البرامج الحوارية الشهيرة في روسيا. هو يستعمل هذه المنصات لدعوة موسكو إلى زيادة وحشيتها ضد أوكرانيا. في مقابلة أجراها في 20 تموز الماضي، قال عن أوكرانيا: «طالما يبقى وكر الأفاعي هذا موجوداً، سيتابع طرح أفكار جامحة عن أعمال الإرهاب والتخريب إلى أن ننجح في تدميره».

يأتي عدد كبير من الخونة من حاشية الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش الذي أسقطته ثورة الميدان الأوروبي، بين العامين 2013 و2014، قبل أن يضطر للهرب إلى روسيا. يُصِرّ عدد من النواب السابقين التابعين لحزب الأقاليم برئاسة يانوكوفيتش على الإدلاء بتعليقاتهم السامة. يظهر أوليه تساريوف وإيهور ماركوف طوال الوقت مثلاً في برامج روسية مشهورة. يدافع تساريوف عن غزو أوكرانيا بالكامل وضمّها إلى روسيا، بينما يُعرَف ماركوف بتملّقه الدائم لبوتين، فهو يعتبر تحركاته «ذات أهمية كبرى لاسترجاع الحدود التاريخية السابقة للإمبراطورية الروسية».

لكن تتألف أكبر مجموعة خونة من متآمرين أوكرانيين في المناطق الأوكرانية المحتلة من روسيا. استلم أول جيل من هؤلاء المنشقين مناصب رسمية في شبه جزيرة القرم وشرق دونباس، بعدما أقدمت روسيا على احتلالهما في العام 2014. يأتي جزء كبير منهم من جماعات إجرامية، أو كان بعضهم ناشطاً في نوادي الفنون العسكرية الممولة من الكرملين.

من بين المتآمرين بعد العام 2022، يتراجع عدد من دعموا الكرملين علناً أو توقعوا تصنيفهم كخونة للبلد. لا يمكن تحديد دوافعهم الحقيقية، لكن استنتج معظمهم على الأرجح أن تركيبة السلطة تغيرت بعد بدء الغزو وقرروا بكل بساطة التكيّف مع الحكام الجدد. يُعتبر فولوديمير سالدو، عمدة خيرسون السابق، من أبرز الأسماء في هذا الجيل الجديد من المتآمرين. عندما احتلت القوات الروسية المدينة، دعم سالدو المحتلين وسرعان ما جعلوه حاكماً للأجزاء التي تحتلها روسيا في خيرسون. في الفترة الأخيرة، دعا سالدو الجنود الأوكرانيين إلى الاستسلام، فتكلم بلغته الأوكرانية الأم مع أن المحتلين الذين يمثّلهم الآن يطبقون سياسة هدفها إلغاء لغة أوكرانيا وهويتها.

أما ميدفيدشوك، فقد اختفى عن الأنظار في المنفى الروسي بعدما سهّلت شركته الأوكرانية وإمبراطوريته الإعلامية ظهور عدد من أبرز المتواطئين الأوكرانيين. أجرى ميدفيدشوك عدداً من المقابلات غداة تبادله مع أسرى حرب أوكرانيين في نيسان 2022، بعد فترة قصيرة على اعتقاله في كييف بتهمة الخيانة. هو خسر اليوم هويته الإعلامية المرموقة وتزدريه معظم أوساط المؤسسات الروسية باعتباره سياسياً فاشلاً لأنه عجز عن تسليم أوكرانيا إلى الكرملين. طوال سنوات، كان يستفيد من مئات ملايين الدولارات بفضل عقود روسية مربحة في مجال الطاقة، لكنه فشل في بناء حزب قوي وموالٍ للكرملين في أوكرانيا، مع أنه أوصل معلومات خاطئة إلى بوتين عن ميل الأوكرانيين إلى دعم روسيا.

بعد إسقاط الرئيس السابق على يد البرلمان الأوكراني غداة ثورة الميدان، حصل يانوكوفيتش على أفضل فرصة لتمثيل المعارضة الأوكرانية. لكن باستثناء الأيام الأولى التي تلت هربه من كييف في العام 2014، لم يجعله بوتين يوماً رئيساً للحكومة الأوكرانية المدعومة من الكرملين في المنفى.

وبعد بدء الغزو في العام 2022، لم تحاول روسيا في أي لحظة إنشاء ما يشبه لجان التحرير الوطنية، وهي مقاربة مألوفة من أيام الحقبة السوفياتية لتحضير البلدان الخارجية لتقبّل سيطرة الكرملين عليها. كذلك، ما من أدلة على توجّه الكرملين إلى إطلاق حملة دعائية مكثفة لتشكيل حكومة موالية لموسكو في كييف، رغم التقارير الاستخبارية الغربية التي تشير إلى مساعي روسيا لتنفيذ هذا السيناريو. تكشف جميع التحركات الحاصلة أن بوتين لم يكن يهدف يوماً إلى السيطرة على الدولة الأوكرانية عبر العملاء التابعين له، بل إنه يريد تدميرها بالكامل.

خلال حرب روسيا المستمرة، يبدو أن الخونة الأكثر تأثيراً هم الذين يتسللون إلى الأجهزة الأمنية في كييف. ومن بين الجواسيس والمخططين الذين كُشِف أمرهم حتى الآن، تبرز أسماء مثل أندريه كليوييف، رئيس هيئة الأركان السابق في عهد يانوكوفيتش، وفلاديمير سيفكوفيتش، نائب رئيس مجلس الأمن القومي الأوكراني السابق، وقد هرب كلاهما إلى روسيا في العام 2014.

يقال إن شبكتهما حققت نجاحات كبرى على مستوى إيصال العملاء إلى عمق الأجهزة الأمنية الأوكرانية، حتى أن بعضهم شارك في تخريب الدفاعات الأوكرانية في أولى مراحل الغزو الروسي في العام 2022. حددت أوكرانيا هوية عدد من هؤلاء العملاء واعتقلتهم، بما في ذلك مجموعة يقال إنها أعطت معلومات خاطئة إلى كييف بشأن التحركات الروسية والمعلومات المشتركة مع موسكو، ما سمح لروسيا بالاستيلاء سريعاً على مساحات واسعة من جنوب أوكرانيا.

كان دور الخونة الأوكرانيين مؤثراً في تسهيل اختراق هياكل الدولة، فقد ساعدوا روسيا في إدارة الأراضي المحتلة، وخدموا في الوحدات العسكرية الروسية وتلك التي تسيطر عليها روسيا. يقع جزء من اللوم أيضاً على الروس والمسؤولين الغربيين الساذجين، إذ يشاهد هؤلاء الأوكرانيين وهم يكررون أفكار الكرملين بشأن الشعب الأوكراني الذي يخضع لحُكم نازي متوحش ويتوق للانضمام إلى الشعب الروسي الشقيق في إطار دولة موحدة.

لكنّ العكس صحيح طبعاً: منذ العام 2014، شهدت أوكرانيا دعماً شبه كامل للدولة الأوكرانية السيادية والمستقلة وللهوية الوطنية المجرّدة من الهيمنة الروسية، وقد ترسخت هذه النزعة في العام 2022. اليوم، يثير الخونة والمشاركون في الحملات الدعائية الموالية لروسيا اشمئزاز الجميع لأنهم أصبحوا جزءاً من أدوات الحرب التي يستغلها العدو. هذا النفور هو الذي يحرك مساعي الحكومة والمجتمع المدني في أوكرانيا لتوثيق حالات الخيانة، حتى أن الأوكرانيين الهاربين إلى الخارج يشاركون في هذه الجهود على أمل أن تتحقق العدالة في نهاية المطاف.


MISS 3