إيمي ماكينون

قَتَلة روسيا يتابعون نشاطاتهم في الشوارع الأوروبية

16 أيلول 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

عسكريون ببدلات واقية خلال تحقيقات بتسميم سيرغي سكريبال في سالزبوري | إنكلترا، 11 آذار 2018

حين عادت ناتاليا أرنو إلى الفندق الذي تقيم فيه في براغ، في بداية شهر أيار الماضي، وجدت باب غرفتها مفتوحاً وفاحت في الأجواء رائحة غريبة. أرنو ناشطة روسية في مجال الديمقراطية اضطرت للعيش في المنفى منذ العام 2012، وهي تعرف تقنيات المراقبة والتجسس جيداً. لذا عمدت إلى تفتيش غرفتها فوراً في ذلك اليوم بحثاً عن أي أجهزة تنصت قبل مغادرتها لحضور اجتماع.

في صباح اليوم التالي، قبل بزوغ الفجر بفترة قصيرة، استيقظت وهي تشعر بألم حاد في فمها. خوفاً من تعرّضها لحالة طارئة على صلة بصحة أسنانها، قامت أرنو، رئيسة «مؤسسة روسيا الحرة»، بتوضيب أمتعتها سريعاً وحجزت رحلة للعودة إلى الولايات المتحدة في الصباح نفسه.

فيما كانت الطائرة تحلّق فوق المحيط الأطلسي، أصابها أمر غريب. بدأ الألم ينتشر في أنحاء جسمها، فوصل إلى تحت إبطَيها، ثم عينيها، وصدرها، وأذنَيها، ومعدتها. في الوقت نفسه، راح خدر مريع يمتدّ إلى عمودها الفقري.

تعليقاً على تلك التجربة، تقول أرنو: «لو أني اشتبهتُ للحظة بأنني تعرضتُ للتسمم، لبقيتُ في براغ وقصدتُ العيادة هناك. بدأ مكتب التحقيقات الفدرالي يحقق بحالة التسمم المشتبه بها، لكني لم أتلقَ بعد أي جواب عن سبب مرضي المفاجئ».



ناتاليا أرنو



في ألمانيا، مرضت الصحافية الروسية إيلينا كوستيوتشينكو أيضاً بعد الاشتباه بتعرضها للتسمم في تشرين الأول الماضي، علماً أنها جزء من منتقدي الكرملين. تجري النيابة العامة في برلين تحقيقاتها حول الحادثة باعتبارها محاولة قتل.

تراجع هامش تحرّك الجواسيس الروس غداة بدء الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في بداية العام 2022. طُرِد أكثر من 400 عميل استخباري روسي ينشطون تحت غطاء دبلوماسي في السفارات من أوروبا كجزءٍ من جهود منسّقة وغير مسبوقة لكبح نشاطات موسكو الخبيثة في القارة الأوروبية. اعتبر رئيس وكالة مكافحة التجسس البريطانية، كين ماكالوم، ما حصل «أقوى ضربة استراتيجية ضد أجهزة الاستخبارات الروسية في التاريخ الأوروبي الحديث».

لكن تكشف حالات التسمم التي أصابت أرنو وكوستيوتشينكو أن فِرَق القتل الروسية لا تزال ناشطة هناك، وهي تُستعمل لتصفية أعداء الدولة أو محاولة اغتيالهم على الأقل.



إيلينا كوستيوتشينكو



يأتي معظم جواسيس روسيا المستقرين في السفارات تحت غطاء رسمي من جهاز الاستخبارات الروسية الخارجية. هم يركزون في المبدأ على عملية التجنيد المطولة، ما يعني نشر العناصر في الحكومات والمؤسسات الأوروبية، فضلاً عن التعامل مع الجواسيس الناشطين. تدير الاستخبارات العسكرية عمليات الاغتيال بشكل عام، وهي تنشط بأعلى درجات السرية.

في هذا السياق، يقول المسؤول السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، مارك بوليمروبولوس: «تسمح عمليات الطرد بإضعاف قدرة الروس على تجنيد العناصر، لكنها لا تنسف قدرتهم على القتل».

اكتشف الصحافيون الاستقصائيون أن العمليات المحفوفة بالمخاطر، مثل محاولات الاغتيال والانقلاب والنشاطات التخريبية، ترتبط بالوحدة النخبوية رقم 29155 في الاستخبارات العسكرية الروسية، علماً أن هذه العناصر تتدرب على أقذر الحِيَل، بدءاً من التخريب وصولاً إلى التسميم. كشفت المجموعة الاستقصائية Bellingcat أن عملاء من تلك الوحدة كانوا وراء تسميم الجاسوس الروسي السابق سيرغي سكريبال بغاز نوفيتشوك في سالزبوري، إنكلترا. سافر العملاء المتورطون في هذه العملية إلى المملكة المتحدة ليومَين فقط بهدف تنفيذ محاولة الاغتيال، مع أنهم يزعمون أنهم وجدوا الوقت الكافي لرؤية الكاتدرائية الشهيرة هناك.



سيرغي سكريبال



تعرضت الوحدة 29155 لضربة موجعة في السنوات الأخيرة حين اكتشف الصحافيون أن عناصرها يسافرون بجوازات سفر تحمل الأرقام نفسها، ما يُسهّل التعرف عليهم في قواعد البيانات الخاصة بسجلات الرحلات المسرّبة. يقول كريستو غروزيف، رئيس التحقيقات الروسية في مجموعة Bellingcat: «بما أن الروس لا يعرفون عدد من فُضِح أمرهم، من المنطقي أن يفترضوا أن جيلاً كاملاً منهم انكشف أمره».

لكنّ طرد مئات الجواسيس الروس الناشطين تحت غطاء رسمي ترافق مع تداعيات بارزة، فقد أجبر موسكو على زيادة اتكالها على خلاياها النائمة لمراقبة العمليات وجمع المعلومات عنها. يضيف غروزيف: «عند خسارة مراكز التنسيق، تبدو السفارات والخلايا النائمة شبه مكشوفة. هذا ما يدفع المعنيين إلى إعادة ابتكار تقنيات التجسس ويُسهّل القبض عليهم». تزامنت هذه المستجدات مع تكثيف الجهود التي تبذلها وكالات الاستخبارات الأوروبية، ما أدى إلى فضح الخلايا النائمة التي يُشتبه بأنها تعمل لصالح روسيا في المملكة المتحدة، واليونان، والنروج، وألبانيا، وهولندا، وألمانيا، والسويد، منذ بدء الغزو ضد أوكرانيا في السنة الماضية.

لطالما استطاع الجواسيس الروس التحرك بحرية في أوروبا أكثر من الولايات المتحدة. يقول بوليمروبولوس: «نحن نشتكي من الأوروبيين ومن غياب التحركات ضد الروس منذ فترة طويلة».

لا يُعتبر نشر العملاء الاستخباريين في السفارات ظاهرة جديدة، إذ تستفيد معظم البلدان من حضورهم الدبلوماسي بهذه الطريقة وبِعِلْم الدولة المضيفة.

كان القادة الأوروبيون يدركون جيداً أن السفارات الروسية هي معاقل للجواسيس، لكنّ تجاهلها كان جزءاً من حساباتهم السياسية. ثم تغيّر الوضع منذ بدء الغزو ضد أوكرانيا. في ألمانيا التي تُعتبر بيئة حاضنة للاستخبارات الروسية منذ فترة طويلة، جددت الحكومة تركيزها على معالجة مشكلة الجواسيس الروس، ولو في مرحلة متأخرة. يقول ستيفان مايستر، خبير في الشؤون الروسية في المجلس الألماني للعلاقات الخارجية: «لن يحصل ذلك بين ليلة وضحاها. تأخرت برلين في جمع المعلومات الاستخبارية التي تسمح لها بالتصدي للنشاطات الروسية في ألمانيا. لا يمكن إتمام هذا النوع من المهام خلال بضعة أسابيع أو أشهر».

في غضون ذلك، أجبرت عمليات الطرد والتدقيق المتزايد موسكو على تغيير تكتيكاتها. يذكر جهاز الاستخبارات الليتواني في تقريره السنوي أن عمليات الاستخبارات البشرية الروسية تلاشت منذ بدء حملة الطرد، لكن ستبقى أوروبا من أبرز الجهات المستهدفة. وتذكر الوكالة في بيان تلقّته صحيفة «فورين بوليسي»: «نحن شبه متأكدين من أن الاستخبارات الروسية المجرّدة من قدراتها على التحرك تحت غطاء دبلوماسي ستبحث عن الفرص التي تسمح لها باستعمال تقنيات أخرى لجمع المعلومات الاستخبارية، بما في ذلك العمليات السيبرانية والإلكترونية وأشكال غير تقليدية من أساليب التخفي».

في محاولة لكبح تدفق الأسلحة الغربية عبر بولندا وصولاً إلى أوكرانيا، ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» أن موسكو سعت إلى تجنيد لاجئين أوكرانيين يحتاجون إلى المال عبر تطبيق المراسلة الاجتماعية «تلغرام» لتنفيذ عمليات المراقبة، وكانت تخطط لإطلاق هجمات عن طريق الحرائق المتعمدة والاغتيالات. يقول غروزيف: «إنه تكتيك جديد بالكامل. بدأت الاستخبارات الروسية أيضاً تنفذ نشاطات المراقبة عبر الاتكال على جماعات إجرامية منظّمة في أوروبا، ما قد يؤدي إلى الكشف عن نشاطات استخبارية روسية إضافية. لكن ستترافق هذه المستجدات أيضاً مع أضرار جانبية متزايدة. عند اللجوء إلى أشخاص غير محترفين أو الاتكال على الجرائم المنظّمة، لا مفر من أن تتخذ تلك الجهات القرارات بنفسها في مرحلة معينة».


MISS 3