هال براندز

نظام الردع في تايوان بدأ ينهار وأميركا لا تبذل جهوداً كافية لمنع الحرب

19 أيلول 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

جندي خلال تدريب عسكري يهدف إلى صدّ هجوم محتمل من الصين في شمال تايوان | 19 كانون الثاني 2021

في آب 2022، اندلعت أسوأ أزمة في مضيق تايوان منذ ربع قرن بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، إلى الجزيرة. إحتشدت الطائرات الصينية على طول الخط الوسطي للمضيق، وتجوّلت السفن الصينية في المياه المحيطة بالجزيرة، وسقطت الصواريخ البالستية في ممرّات الشحن الأساسية. وبعد أشهر على بدء الغزو الروسي الذي استهدف أوكرانيا وذكّر الجميع بأن اندلاع حرب كبرى لا يزال ممكناً في هذا العصر، جاءت أزمة تايوان لتؤكد احتمال أن يندلع صراع بين أبرز قوتَين في العالم إذا أقدمت الصين على مهاجمة الجزيرة.



من الواضح أن الرئيس الأميركي جو بايدن يعطي الأولوية لمنع نشوب صراع مماثل. رغم السياسة القديمة المبنية على «الغموض الاستراتيجي»، أكد بايدن في أربع مناسبات علنية التزام الولايات المتحدة بمساعدة تايوان في حال تعرّضها للهجوم. لكن لا يقتصر الردع على إعلان هذا النوع من السياسات، بل يتطلب إنشاء بنية متوسّعة من القيود للحفاظ على السلام عبر تأجيج المخاوف من عواقب الحرب. بعد مرور أكثر من سنة على أزمة آب الماضي، يجد الأميركيون وأصدقاؤهم صعوبة في إنشاء تلك البنية خلال المدة القصيرة المتبقية أمامهم.

تتعدّد العوامل التي تفسّر أهمية تايوان، فهي معقل أساسي لسلاسل الإمدادات التكنولوجية، ويتعرّض نظامها الديمقراطي لتهديد دائم من نظام استبدادي عدائي، وهي نتاج إرث عالق من حقبة الحرب الأهلية الصينية. لكن أصبحت تايوان اليوم أخطر نقطة ساخنة لأسباب استراتيجية أيضاً.

في ما يخص جوانب الردع المتنوّعة، يمكن البدء بمعالجة نقطة الضعف الأميركية القديمة في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، أي غياب تحالف إقليمي يجعل أي هجوم ضد بلد واحد اعتداءً على جميع الحلفاء. لا تزال المعطيات التاريخية والجغرافية تمنع التوصّل إلى هذا النوع من الترتيبات. لكن اتخذت واشنطن في السنوات الأخيرة خطوات بارزة لتقوية العلاقات التي تسمح بإقامة تحالف فاعل.

بدأ التحالف الأميركي الياباني يتحوّل إلى شراكة حقيقية لخوض الحرب، إذ تنشغل طوكيو ببناء أقوى دفاع منذ أجيال وتتعاون مع واشنطن لتحويل جزر ريوكيو إلى نقاط قوة بحرية. كذلك، أقامت أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة شراكة تُركّز بشكلٍ أساسي على تعزيز التوازن العسكري في المنطقة، لا سيّما تحت البحر. في غضون ذلك، تسمح أستراليا وبابوا غينيا الجديدة والفلبين لواشنطن بالوصول إلى سلاسل الجزر الأولى والثانية، وينظّم الحوار الأمني الرباعي تدريبات أكثر طموحاً، وتوسّع دول أوروبية عدة انتشارها العسكري في المنطقة. تسعى كوريا الجنوبية واليابان أيضاً إلى تحسين تعاونهما الأمني، حتى أن المسؤولين في واشنطن وطوكيو وكانبيرا يتكلمون همساً عن القتال في إطار تحالف ثلاثي دفاعاً عن تايوان.

قد يكون هذا التحالف كفيلاً بتغيير قواعد اللعبة. تستطيع اليابان تحديداً أن تؤمّن معدات جوية وبحرية أساسية، وقد تُحدِث خيارات أخرى لنشر القواعد العسكرية فرقاً كبيراً في مطلق الأحوال عبر منع الصواريخ الصينية من سحق القوة الأميركية من دون إطلاق حرب إقليمية واسعة.

تتعدّد العوائق التي تحول دون إطلاق حملة عالمية لمعاقبة المرتكبين. لكن أثبتت الحرب الروسية في أوكرانيا أن الديمقراطيات المتقدّمة حول العالم تستطيع توحيد صفوفها لزيادة التكاليف التي يتكبّدها المعتدون. بدأ حلف الناتو ومجموعة السبع يهتمان بتايوان وغرب المحيط الهادئ اليوم، فيما تحاول واشنطن إقناع حلفائها باستهداف الصين بالعقوبات التكنولوجية والمالية والتجارية في حال اندلاع الحرب. في غضون ذلك، قد تستعمل البحرية الأميركية سيطرتها على نقاط الاختناق البحرية لوقف واردات الطاقة الصينية المنقولة عبر البحر، وأصبح الرئيس شي جين بينغ مضطراً الآن للتفكير بالأضرار الاقتصادية المرافقة لأي هجوم ضد تايوان.

لكن يبقى هذا الخيار مجرّد احتمال غير مؤكد. ما من موقف غربي جامع أو معلن حول معاقبة الصين. حتى أن بعض البلدان الأوروبية لا يحبّذ هذه الفكرة، لا سيّما فرنسا. يتردّد آخرون على الأرجح في القيام بهذا النوع من الالتزامات وإثارة استياء بكين قبل اندلاع الصراع. لاحظ شي جين بينغ من جهته أن العقوبات أساءت إلى الاقتصاد الروسي لكن من دون أن تدمّره. هو يحاول تخفيف تعرّض الصين لهذه المخاطر في أسرع وقت عبر تخزين المواد الغذائية والغاز، وبلوغ مستوى من الاكتفاء الذاتي في قطاع التكنولوجيا، والاستثمار في خطوط الأنابيب البرية وممرّات الإمدادات التي تُعتبر آمنة وبعيدة عن العوائق المحتملة. لهذا السبب، يمكن اعتبار الردع هدفاً متحركاً.

أخيراً، من المستبعد أن تستخدم الولايات المتحدة الأسلحة النووية أولاً في أي حرب بسبب تايوان لأن بكين قد تردّ بالمثل. يقضي هدف أفضل بمنع الصين من التفكير بالتصعيد النووي المحدود، ضد القوات أو القواعد الأميركية في المنطقة على الأرجح، لمنع واشنطن من التدخل منذ البداية.

ستبقى الترسانة النووية الأميركية أكبر وأكثر خطورة من الترسانة الصينية حتى نهاية هذا العقد، ما يمنح واشنطن الهيمنة الكافية لاختيار توقيت التصعيد بنفسها. كذلك، يعمل البنتاغون على تطوير قدرات نووية محدودة، منها رؤوس حربية منخفضة الإنتاجية يمكن إيصالها عبر صواريخ بالستية تنطلق من الغواصات، لمنع بكين من استعمال أي تصعيد لمصلحتها. مع ذلك، قد لا يكون منع الصين من استخدام التهديدات النووية للفوز في حرب تقليدية بسيطاً بقدر ما يوحي به.

قد يظنّ القادة الصينيون أنهم سيتفوّقون في أي صراع على تايوان لأن الجزيرة لا تهمّ واشنطن بقدر بكين، نظراً إلى موقعها الجغرافي وتاريخها. وفي ظل توسّع الترسانة الصينية بوتيرة متسارعة منذ أواخر العام 2020، قد تصبح بكين أيضاً أكثر ميلاً إلى استخدام الأسلحة النووية لاكتساب نفوذ قسري، كما فعلت موسكو عند تطوير القدرات السوفياتية العابرة للقارات في عهد خروتشوف.

ربما أقنعت الأحداث الأخيرة بكين بأن الولايات المتحدة لن تخوض حرباً تقليدية ضد خصومها المسلحين نووياً. نَسَب بايدن سبب الامتناع عن التدخل المباشر في أوكرانيا إلى الخوف من اندلاع «حرب عالمية ثالثة». إذا اشتبه شي جين بينغ بأن الولايات المتحدة تتوق إلى خوض منافسة قائمة على أخذ مجازفات نووية في آسيا، قد يكون تفكيره خاطئاً لكنه ليس جنونياً. بدأت حروب كثيرة بسبب حسابات خاطئة أسوأ من هذه الفكرة.

يبقى الردع في النهاية مفهوماً ذاتياً. لا يمكن اختراق تفكير شي جين بينغ وتحديد المسائل التي تُشجّعه على التحرّك أو تعيق تحرّكاته. أفضل ما تستطيع واشنطن فعله هو محاولة تقليص أي تفاؤل يحمله الرئيس الصيني بشأن نتيجة الحرب المحتملة، تزامناً مع الاعتراف بعدم وجود أي احتمالات مؤكدة في الصراع. في هذا السياق، يمكن الشعور بدرجة من الاطمئنان لأن الأميركيين وأصدقاءهم يبذلون جهوداً هائلة لمعالجة المخاطر المتزايدة. لكن من المقلق في المقابل أن نشاهدهم وهم يتحرّكون ببطء شديد فيما تسارع الصين إلى الاستعداد للقتال. تبدو الوجهة المستهدفة ممتازة في مسائل عدة، بدءاً من بناء التحالفات وصولاً إلى تقوية تايوان وتعزيز القدرات الأميركية، لكنّ سرعة التحرك ليست مثالية بأي شكل.

يظنّ بعض المحللين أن الطريقة الوحيدة لتسريع تلك الخطوات تقضي بإبطاء التحرّك في أماكن أخرى، ما يعني أن تتمكن الولايات المتحدة من إنقاذ تايوان عبر التضحية بأوكرانيا. لكنّ الوضع ليس بهذه البساطة. في النهاية، يبقى الردع نتاجاً لقوة الإرادة والقدرات الواقعية. قدّم عدد كبير من الديمقراطيات في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، بما في ذلك تايوان، دعماً قوياً لأوكرانيا لأن تلك الدول تعرف أن شي جين بينغ سيأخذ في الاعتبار ردّ العالم الحرّ على العدوان في مكان معيّن عند تقييم عواقب أي عدوان محتمل في مكان آخر. من الناحية المادية، كانت الحرب في أوكرانيا وراء عدد كبير من الخطوات الإيجابية أيضاً في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، منها زيادة الإنفاق على الدفاع، وتكثيف التعاون بين الشركاء والحلفاء، وزيادة الاستثمارات في القاعدة الصناعية الدفاعية الأميركية. تقضي المقاربة الصائبة إذاً بجعل أي حرب صادمة حدثاً طارئاً بما يكفي لتكثيف الجهود القادرة على منع حرب أخرى من هذا النوع. في بداية الخمسينات مثلاً، استعملت إدارة ترومان المخاوف المتصاعدة بسبب الحرب الكورية لتعزيز الحشد العسكري الأميركي والهجوم الدبلوماسي، ما سمح بتقوية موقف المعسكر الحرّ في أنحاء العالم.

في النهاية تبقى جميع النقاشات المتعلقة بالمُهَل الزمنية غير واقعية. لم يبدأ العدّ العكسي رسمياً في بكين، لكن لن يكون هذا الادعاء سلبياً. لا حاجة إلى معادلات سحرية لمنع أي حرب مريعة في غرب المحيط الهادئ، بل يستلزم الوضع المزيد من الخطوات العاجلة والموارد ووحدة الصف بدرجة تفوق ما تفعله الأطراف الملتزمة بالدفاع عن النظام القائم حتى الآن. يجب أن يبدأ الأميركيون وحلفاؤهم إذاً بالتحرّك وكأنهم يصدقون كلام المسؤولين الأميركيين حين قالوا إن الوقت قد يكون أضعف عامل يملكه العالم الحرّ اليوم.


MISS 3