يقال إن الضغوط تنتج أفضل أداء. لكن ماذا يحصل حين يقدم الفرد أفضل أداء ممكن ثم يتابع فرض الضغوط على نفسه؟ يمكن اختصار الجواب باسم مارك كافنديش. يقدم أحدث وثائقي تعرضه شبكة «نتفلكس» عن رياضة ركوب الدراجات الهوائية فيلماً دافئاً ومشحوناً بالعواطف والمعلومات المثيرة للاهتمام بعنوان Mark Cavendish: Never Enough (مارك كافنديش: لا يكفي أبداً)، وهو يسلّط الضوء على مسيرة استثنائية. مرّ هذا الدراج البريطاني بأعلى درجات النجاح ووصل إلى الحضيض في مرحلة معينة، فاختبر تجربة مريعة قبل أن ينهض من جديد.
يتنقل الفيلم بين سنوات مختلفة، لكنه يُركز بشكلٍ أساسي على فترة محورية من حياة كافنديش، بين العامين 2017 و2021. خلال هذه المرحلة، عاش الدراج الشهير فترة صعبة لأنه لم يقدم أفضل أداء له، ثم أصيب في نهاية المطاف بمشاكل نفسية أعاقت حياته. يتعلق جزء من السبب بتصاعد الضغوط الإعلامية عليه ورفع سقف التوقعات المنتظرة منه، والأعباء التي ترافق مكانته واضطراره لإنقاذ كامل فريقه بنفسه. تزامنت هذه المشاكل كلها مع إصابته بفيروس إبشتاين بار.
لا يستطيع شخص واحد أن يتحمل ضغوطاً تفوق طاقته، ولا مفر من أن يبدأ بالانهيار في مرحلة معينة، وتكون التداعيات مدمّرة وفوضوية أحياناً. لكن كان أسلوب مارك كافنديش في التكلم عن معاركه النفسية خلال تلك الفترة الصعبة لافتة جداً. توضح زوجته بيتا في مرحلة معيّنة أن مارك كان يسخر دوماً من مفهوم الاكتئاب، إلى أن أصيب به شخصياً. إنها وجهة نظر شائعة ويترافق هذا المرض حتى الآن مع وصمة عار كبيرة في مجال الصحة النفسية.
تختلف ردود أفعال رب العمل مثلاً حين نخبره بأننا نعجز عن المجيء إلى العمل لأننا كسرنا ظهرنا مقارنةً بما يفعله إذا أخبرناه بأننا مصابون بالاكتئاب. تتطرق أفلام مثل Never Enough إلى حدّة هذه المشاكل الصحية، لكن يبدو أن ثقافتنا لن تتقبّل هذا الواقع قبل مرور وقتٍ طويل.
يحمل عنوان الوثائقي معنىً مزدوجاً ذكياً، وهو يناسب أحداث هذا الفيلم. من جهة، يشير العنوان إلى رغبة كافنديش القوية في تحقيق النجاح وتعطّشه الدائم للحفاظ على المرتبة الأولى على منصات التتويج في مجال ركوب الدراجات الهوائية، فهو يريد أن يبقى أفضل دراج في العالم. ومن جهة أخرى، يشير العنوان إلى ردة فعل وسائل الإعلام على كافنديش، إذ توحي مواقفها دوماً بأن ما يفعله لن يكون كافياً مهما حصل. إنها فكرة بالغة الأهمية، وهي تتضح في أجزاء من مقابلات مع لانس أرمسترونغ الذي يشكّ بقدرة كافنديش على استرجاع مستواه السابق مجدداً.
مونتاج الفيلم متقن بشكل عام، والمقابلات مع مختلف الشخصيات ممتازة. يعطي أشخاص متنوعون رأيهم بمارك كافنديش، بما في ذلك أفراد من خارج عائلته الصغيرة. هم يتكلمون بأسلوب صريح وصادق عن سلوك مارك الشائك، ويشيدون في الوقت نفسه بموهبته الخارقة في مجال ركوب الدراجات، ويتطرقون إلى هوسه بالفوز في مختلف السباقات.
يُعتبر هذا الوثائقي ممتازاً على جميع المستويات، وقد يستمتع به المشاهدون حتى لو لم يكونوا من محبي ركوب الدراجات الهوائية. إنه عمل غني بالمعلومات، وهو يكشف حجم الأضرار التي تُسببها المشاكل النفسية، ويؤكد على قدرة أي شخص على النهوض من أصعب المشاكل وإيجاد بصيص أمل في نهاية النفق.