كريم مروة

وجوه وأعلام

المؤتمر العربي الأول في باريس (1913) قراراته التاريخية وشهداؤه الأبطال

12 أيار 2020

02 : 00

المؤتمر العربي الأول
قد يبدو لأول وهلة كما لو أن هذا الاستحضار لحدث تاريخي، يعود إلى ما يقرب من القرن، يتم خارج السياق، أي خارج الشروط التاريخية للزمن العربي الراهن. إذ ماذا يعني أن نستذكر اليوم قرارات المؤتمر العربي الأول الذي عقد في ظل السلطنة العثمانية؟ وما هي الصلة بين المواقف التي أعلنها قادة الرأي والفكر وقادة العمل الوطني العربي في ذلك الزمن القديم، وبين ما نحن بحاجة إلى البحث فيه في الزمن العربي الراهن؟ ذلك أن ما نحن بحاجة إليه اليوم هو تحديد دقيق وواقعي للمهمات المتصلة بإحداث التغيير في عالمنا العربي، على قاعدة الحرية والديمقراطية وتحرير بلداننا من كل أشكال الاستبداد في السلطة وفي مؤسساتها، وفي الفكر وفي تجلياته وفي انعكاساته في المجتمع وفي الوعي الفردي والجماعي في آن!

لا جدال في أن الشروط التاريخية التي نحن فيها اليوم تختلف اختلافاً جوهرياً عن الشروط التي عقد فيها ذلك المؤتمر. لكن قراءة أحداث التاريخ القديم قراءة معاصرة تشكل، مصدراً للتفكير بمسار حركة التاريخ، من جهة، ومن جهة ثانية مصدراً للتأمل واستخلاص الدروس من التجارب السابقة. واقع العالم العربي أنه خضع للسيطرة العثمانية من مطلع القرن السادس عشر حتى العام 1918، العام الذي تفككت فيه الإمبراطورية في أعقاب هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. لكن هذه الإمبراطورية واجهت في القرن التاسع عشر ثورات وانتفاضات قامت بها شعوب وقوميات مختلفة في الشرق وفي الغرب، إما تحت شعار الاستقلال الكامل، أو تحت شعار اللامركزية، فيما يشبه الحكم الذاتي لتلك القوميات غير التركية.

وهكذا ظهرت "المسألة الشرقية"، وجوهرها الاحتجاج على استئثار الترك بالسلطة من دون أخذ حقوق القوميات والشعوب غير التركية في الاعتبار.

وتحول هذا الاستئثار الى مصدر لقلاقل وثورات وانتفاضات في البلقان خصوصاً، وفي الولايات العربية كذلك بصورة أقل حدة. وحين تأسست "جمعية الاتحاد والترقي" التي أعلنت الدستور الجديد العام 1908 أيدها العرب، وظنوا أنهم وصلوا إلى ما كانوا يبتغونه من الاعتراف بهم كقومية ذات حقوق وذات خصوصية وذات ثقافة عريقة سابقة على الترك.

لكن الاتحاديين ما لبثوا أن كشفوا عما كانوا يضمرون، لا سيما في ما يتعلق بالموقف من العرب. وبدأوا يمارسون سياسة اضطهاد للعرب، على قاعدة الكره لهم، وصولاً إلى إذلالهم، وفق ما عبّر عنه كاتب منهم (كما يشير إلى ذلك يوسف ابراهيم يزبك في كتابه المكرس للمؤتمر ولقراراته) بالكلمات التالية: "للأتراك أن يحكموا العرب تماماً كما حكم الفرنسيون أهل الجزائر، وكما يحكم الإنجليز الهند...". ويعيد الكثير من المؤرخين العرب هذا الكره التركي للعرب إلى كونهم سبقوا الترك في الثقافة، وكوّنوا حضارة عالمية ارتبطت بالإسلام، الذي كان الترك انتسبوا إليه في ما بعد، وحكموا الأمم التي تشكلت منها الأمبراطورية العثمانية باسمه، أي الإسلام.

لم ييأس القادة العرب بعد انكشاف نوايا الترك ضدهم. فطرحوا في العام 1910 سلسلة شكاوى وضعوها أمام السلطنة وجعلوها عنواناً لنضالهم اللاحق. وكانت تقف وراء تلك الحركة الاحتجاجية جمعيات سرية منتشرة في الولايات العربية.

في مطالع العام 1913 عقد الأرمن مؤتمراً في جنيف للمطالبة بحقوقهم شاركت فيه وفود من جميع الجاليات الأرمينية. وحضر المؤتمر ثلاثة من العرب كانوا في جنيف وهم: محمد المحمصاني وجميل مردم واندره مطران. وتبلورت لدى الثلاثة، فكرة الدعوة إلى مؤتمر قومي عربي. فذهب الثلاثة إلى باريس ليتفقوا مع أخوانهم في جمعية "الفتاة" على الدعوة إلى عقد المؤتمر العربي.

وانتخبت لجنة للإعداد للمؤتمر والدعوة إليه من: شكري غانم وعبد الغني العريسي وندره مطران وعوني عبد الهادي وجميل مردم وشارل دباس ومحمد المحمصاني وجميل معلوف. ووجهت اللجنة نداءً إلى العرب تدعو فيه إلى عقد المؤتمر، مع شرح الأسباب الداعية إلى عقده (باريس). وتحددت النقاط التي ستكون في أساس مداولات المؤتمر، وهي: 1 ـ الحياة الوطنية ومناهضة الاحتلال، 2 ـ حقوق العرب في المملكة العثمانية، 3 ـ الإصلاح في المملكة على قاعدة اللامركزية.

ولبّت الجمعيات العربية الدعوة إلى المؤتمر وأرسلت مندوبيها للمشاركة فيه. وكان من أوائل الذين وصلوا إلى باريس عبد الحميد الزهراوي قادماً من مصر. وكان قد اتفق أن يرأس الزهراوي المؤتمر. وفور وصوله إلى باريس أدلى بحديث مطول إلى جريدة "الزمن" (Le Temps) مبيناً بوضوح أهداف المؤتمر. وأكد الزهراوي في الحديث أن للعرب سمات وخصائص تشكل أساس وحدتهم، مسلمين ومسيحيين. وتتلخص تلك السمات والخصائص بوحدة اللغة والعادات والمصالح. وهذه السمات والخصائص هي التي تعطي للعرب، كما قال الزهراوي، حقوقاً داخل المملكة العثمانية تنكر لها الترك. اجتمع المؤتمر في الثامن من شهر حزيران العام 1913، بوسط العاصمة الفرنسية باريس. وانتخب عبد الحميد الزهراوي رئيساً للمؤتمر. وانتخب شكري غانم نائباً للرئيس. وانتخب الوكلاء من: سليم علي سلام واسكندر عون والشيخ أحمد طبارة وندره مطران. أما كتاب العربية فهم: عبد الغني العريسي ومحمد المحمصاني وعوني عبد الهادي وجميل مردم. وكاتب الفرنسية شارل دباس.

بدأ المؤتمر أعماله بخطاب مطول للرئيس الزهراوي طرح فيه أمام المندوبين القضايا التي تشكل الأساس للنقاش في المؤتمر وفي قراراته. وعرض بإسهاب للمطالب التي يتمسك بها العرب إزاء الترك. وأنهى خطابه بالكلمات التالية: "قصارى القول: اننا نعتبر حكومات الأستانة غير مستوفية الشروط والأركان، من وجهة العدل، ما دام حقنا غير محفوظ. فالحكومات في نظر «إعلان حقوق الإنسان» لا تكون مشروعة إلا إذا احترمت حق الأفراد، فمن باب أولى حق الجماعات وحق الشعوب. نطلب هذا الحق كشركاء في الدولة، في القوة الإجرائية، والقوة التشريعية، والإدارة العامة. أما في داخلية بلادنا فنحن شركاء أنفسنا، في أموال المعارف، أموال النافعة، الأوقاف، حرية التجمع والصحافة، ولا يكون ذلك إلا بتوسيع صلاحية المجالس العمومية. أما طريقة الوصول إلى هذه الحقوق فسنتخذ لها الوسائل الشرعية كلها، وسنواجه أي سعي من حكومة الاستانة لإخفات أصواتنا بالقوة والقهر.فليفكروا قليلاً، فإن النبي محمداً (ص) لم يخضع العرب بضغط ولا قوة، وإنما استمالهم بمعقول القرآن، ومبدأ العدل والمساواة والإخاء. على هذه السبيل ربطنا قلوبنا، وتعهدنا بالتبعة الشخصية، والتضامن الاجتماعي، أن نتخذ كل الوسائل تحقيقاً لهذه الحياة الشريفة. فالغاية في السياسة تشفع للوسيلة، ولا سيما إذا كانت الغايات غايات شرف ونبل، غايات حق وعدل".

ثم عرضت القرارات للنقاش وتمت الموافقة عليها بعد أخذ ورد. وفي ما يلي نص هذه القرارات:

1 - إنَّ الإصلاحات الحقيقية واجبة وضرورية للمملكة العثمانية فيجب أن تنفذ بوجه السرعة.

2 - من المهم أن يكون مضموناً للعرب التمتع بحقوقهم السياسية، وذلك بأن يشتركوا في الإدارة المركزية للمملكة اشتراكاً فعلياً.

3 - يجب أن تنشأ في كل ولاية عربية إدارة لامركزية تنظر في حاجاتها وعاداتها.

4 - كانت ولاية بيروت قدمت مطالبها بلائحة خاصة صودق عليها في 31 كانون الثاني سنة 1913 بإجماع الآراء، وهي قائمة على مبدأين أساسيين وهما: توسيع سلطة المجالس العمومية، وتعيين مستشارين أجانب. فالمؤتمر يطلب تنفيذ وتطبيق هذين الطلبين.

5 - اللغة العربية يجب أن تكون معتبرة في مجلس النواب العثماني، ويجب أن يقرر هذا المجلس كون اللغة العربية لغة رسمية في الولايات العربية.

6 - تكون الخدمة العسكرية محلية في الولايات العربية إلا في الظروف والأحيان التي تدعو للاستثناء الأقصى.

7 - يتمنى المؤتمر من الحكومة السنية العثمانية أن تكفل لمتصرفية لبنان وسائل تحسين ماليتها.

الرئيس: تعلمون كلكم أنَّ لبنان مقاطعة عثمانية ذات شكل خاص، وهي تشكو عجزاً في ميزانيتها، وهذه الميزانية اللبنانية تراقبها الحكومة المركزية وتعين المحاسب للجبل، ليرى إذا كانت واردات لبنان كافية لإدارة شؤونه أو تزيد على الكفاية أو تنقص عنها، وبالرغم من سكوت إخواننا اللبنانيين على ما يشاهدونه من حالة بلادهم فإننا جميعاً نرى ـ إذا لم نرد أن نتعامى ـ أن هنالك مسألة تدعى المسألة اللبنانية.

8 - يصادق المؤتمر ويظهر ميله لمطالب الأرمن العثمانيين القائمة على اللامركزية.

9 - تبلغ هذه القرارات للحكومة العثمانية السنية.

10 - وتبلغ أيضاً هذه القرارات للحكومات المتحاربة مع الدولة العثمانية.

11 - يشكر المؤتمر الحكومة الفرنسوية شكراً جزيلاً لترحابها الكريم بضيوفها.

وأضيف إلى القرارات ملحق من ثلاث نقاط هي:

1 - إذا لم تنفذ القرارات التي صادق عليها هذا المؤتمر فالأعضاء المنتمون إلى لجان الإصلاح العربية يمتنعون عن قبول أي منصب كان في الحكومة العثمانية إلاَّ بموافقة خاصة من الجمعيات المنتمين إليها.

2 - ستكون هذه القرارات برنامجاً سياسياً للعرب العثمانيين، ولا يمكن مساعدة أي مرشح في الإنتخابات التشريعية إلاَّ إذا تعهَّد من قبل بتأييد هذا البرنامج وطلب تنفيذه.

3 - المؤتمر يشكر مهاجري العرب على وطنيتهم في مؤازرتهم له ويرسل لهم تحياته بواسطة مندوبيهم.

عاد المؤتمرون إلى بلدانهم وهم يعلمون أن المخابرات التركية اطلعت على المداولات ويدركون أهمية وخطورة ما قاموا به. لكنهم لم يتصوروا أن المشانق كانت معدة بعد ذلك بعامين، أي في العام الثاني للحرب العالمية الأولى، التي كانت فيها السلطنة العثمانية تحالفت مع ألمانيا. ففي السادس من مايو/أيار من العام 1915 اتخذ جمال باشا السفاح قراره بإعدام عدد من قادة الحركة الوطنية ممن شاركوا في ذلك المؤتمر التاريخي. ونصبت لهم المشانق في ساحة البرج في وسط مدينة بيروت، وبساحة المرجة، في وسط مدينة دمشق. ومن شهداء القادة الوطنيين، رموز ذلك المؤتمر التاريخي: عمر حمد، عبد الغني العريسي، أحمد طبارة، سعيد عقل، توفيق البساط، أمين لطفي الحافظ، شفيق مؤيد العظم، شكري العسلي، رشدي الشمعة، عبد الوهاب الإنكليزي، جلال البخاري، رفيق رزق سلوم، باترو باولي، جورجي حداد، عارف الشهابي، محمد الشنطي، محمد المحمصاني، عبد الكريم الخليل، علي الأرمنازي، عبد القادر الخرسا، محمود المحمصاني، نايف تلو، نور الدين القاضي، محمود العجم.

ورغم انقضاء قرن على الحدث فإن المهم فيه أولاً هو الوضوح في تحديد الهوية العربية وتحديد معنى الانتماء إلى العربية ثقافة ولغة وتاريخاً مشتركاً بين المكونات المختلفة للشعوب العربية، والإقرار بالتنوع داخل الوحدة بين العرب، التنوع في الدين وفي الثقافة.

والإصرار ثالثاً على النضال لتحقيق الأهداف القومية المشتركة، حتى ولو قاد ذلك النضال أبطاله ورموزه إلى أعواد المشانق.

أما الهدف الأساسي من استحضار هذا الحدث التاريخي فهو توجيه النقد إلى الحركات الوطنية العربية المعاصرة، يسارها ويمينها ووسطها على حد سواء، النقد لها بسبب افتقاد سياساتها وبرامجها إلى ما تحلت به تلك الحركات السياسية التي شاركت في ذلك المؤتمر، واتخذت تلك القرارات، وإلى ما اتصفت به من شجاعة وحزم وعزم في مواجهة تبعات دفاعها عن مواقفها، وصولاً إلى أعواد المشانق.


MISS 3