عبده جميل غصوب

مدى صحة اعتماد مؤسسة Discovery الانكلوسكسونية امام القضاء اللبناني

24 أيلول 2023

09 : 41

لا بد لنا بادئ ذي بدء من تعريف هذه المؤسسة القانونية الانكلوسكسونية، قبل الانتقال الى مدى قبولها في النظام القانوني الاجرائي اللبناني، ومدى عدم تعارضها مع النظام العام الاجرائي اللبناني بمفهوم القانون الدولي الخاص ومع مبدأ الاستقامة في الاثبات.


أ – تعريف مؤسسة Discovery:

Discovery est le nom donné à la procédure américaine permettant dans le cadre de la recherche de preuves pouvant être utilisées dans un procès, de demander à une partie tous les éléments d’information ( faits, actes, documents …) pertinents pour le règlement du litige dont elle dispose quand bien même ces éléments lui seraient défavorables.


اي ان المؤسسة القانونية الانكلوسكسونية المعروفة باسم Discovery هي وسيلة اجرائية اميركية تجيز ـ في معرض دعوى عالقة ـ الطلب من الخصم بيان جميع عناصر الاستعلام (وقائع، اعمال، مستندات الخ ) تكون بحوزته ومفيدة في النزاع ولو كانت في غير مصلحته.



ب ـ مدى قبول مؤسسة Discovery في النظام القانوني الاجرائي اللبناني


للاجابة عن هذا السؤال لا بد لنا، في مرحلة أولى، من وضع الاطار الواقعي والقانوني للحل المقترح:

اذا كانت الادلة مستخدمة من قبل مدعي غير تاجر ضد تاجر فانه يمكن لغير التاجر ان يستخدم بوجه التاجر كل الادلة، عملا بمبدأ الاثبات الحر في المواد التجارية، بشرط الا تكون هذه الوسيلة مخالفة للنظام العام القانوني الاجرائي والقوانين الالزامية في لبنان.


لا بد بادئ ذي بدء من الاشارة الى انه تثار في حقل الاثبات مسألة هامة تكمن في معرفة مدى الحرية التي يمكن ان تعود للقاضي في اختيار الادلة وفي تطوير قيمتها. وينشأ عن ذلك اعتباران:


اولهما يرتكز على فكرة العدالة، وهو يستلزم حرية واسعة في قبول الادلة توصلا لكشف الحقيقة، وثانيهما يستند الى دافع الاستقرار في التعامل ويوجب تقييد حرية القاضي في اختيار الادلة وتعيين قيمة كل منها، منعا للتعسف ولاجل توحيد الحلول في القضايا المتماثلة بين جميع المتقاضين. وعلى اساس هذين الاعتبارين نشأت مذاهب ثلاثة في الاثبات.



1 – مذهب الاثبات الحر


لا يعيّن القانون، في هذا المذهب، طرقا خاصة للاثبات، بل يترك للخصوم حرية تقديم الادلة التي يشاؤون في سبيل اقناع القاضي. كما يترك للقاضي حرية تقدير الادلة المقدمة اليه وتكوين قناعته بالاستناد اليها.



2 - مذهب الاثبات القانوني او المقيّد


يعيّن القانون في هذا المذهب طرقا خاصة للاثبات تختلف باختلاف الوقائع والتصرفات المراد اثباتها، ويبيّن لكل طريق قيمته، ويفرض على القاضي والخصوم التقيد بها.



3 – المذهب المختلط:


هو يجمع بين هذين المذهبين السابقين. ويقوم في القضايا المدنية على تحديد طرق الاثبات وتعيين قيمة بعضها وترك تقدير البعض الآخر لحكمة القاضي وقناعته. وقد اخذ بهذا المذهب القانون اللبناني ومعظم الشرائع الحديثة كالقانون الفرنسي وسائر القوانين اللاتينية والقانون المصري والسوري ومعظم القوانين العربية الاخرى.



هذا المذهب يجمع بين روح العدالة اذ يترك للقاضي حرية استقصاء الحقيقة وثبوت التعامل واستقراء الحلول القضائية .


لا بد هنا من التوضيح ان الاثبات المطروح في الرأي الحاضر، هو من نوع الاثبات الحر الذي يمكن لكم اثارته بوجه بنك عوده ش.م.ل الذي يتمتع بالصفة التجارية، بمجرد كونه شركة مساهمة مغفلة. وهذا النوع من الشركات يكتسب صفة التاجر شكلا اي بمجرد انه شركة مغفلة لبنانية.



فطالما ان مسألة الاثبات الحر قد حسمت، يبقى لنا معرفة ما اذا كانت مؤسسة Discovery مقبولة في لبنان.

هناك شرط واحد لقبولها في لبنان هو الا تكون مخالفة للنظام العام الاجرائي اللبناني والقوانين الالزامية في هذا الصدد.



ج ـ عدم تعارض مؤسسة Discovery الانكلوسكسونية مع النظام العام الاجرائي اللبناني والقوانين الالزامية


لا بد بادىء ذي بدء من التذكير بان الاثبات الحر يقوم على اقناع العقل بحقيقة شيء ما. والاثبات القضائي هو اقناع عقل القاضي، فلا يمكن تقييد اي منهما بقواعد قانونية، بل تقبل لاجل تحقيقهما مختلف الادلة والوسائل التي يستطيع الخصوم تقديمها وتكون للقاضي حرية تقدير كل منها. فبذلك يصبح الاثبات الحر امرا نفسيا او منطقيا اكثر منه قانونيا.


ولكن العائق الوحيد امام هذا الامر النفسي او المنطقي هو النظام العام الاجرائي والقوانين الالزامية. فهل ان النظام العام الاجرائي اللبناني والقوانين الالزامية تمنع قبول الاثبات الناشىء عن مؤسسة Discovery في لبنان؟


نشير في البدء الى ان القانون اللبناني منفتح جدا على المؤسسات القانونية الانكلوسكسونية ومنها مؤسسة التراست Trust، والاستوبيل Estoppel، وتجزئة الذمة المالية، وقبول شركة الشخص الواحد الخ. فمؤسسة التراست Trust شبيهة عندنا بمؤسسته الوقف ومؤسسته الاستوبيل لها مثيلتها في الشريعة الاسلامية الخ.



هذا فضلا عن ان الثقافة الاجرائية في القانون اللبناني، هي ثقافة منفتحة وعالميا ـ في اطار العولمة ـ تجري حاليا محاولات لتوحيد الاجراءات، سواء على الصعيد الاقليمي ( لا سيما العربي ) او الاوروبي، او العالمي، خصوصا مبادىء وقواعد الاجراءات المدنية غير الوطنية لليونيدروا ( Unidroit ).



ان تقارب القوانين الاجرائية العالمية هو ذات بعد ثقافي ؛ فالوصول الى الحقيقة القضائية لا يجب ان يختلف من بلد الى آخر لان المسألة تتعلق بشكل اساسي بالحقيقة، التي من المفترض ان تكون واحدة في العالم بأسره. والعلاقة بين قانون الاثبات والثقافة اللبنانية لا يجب ان ينهض من النصوص فقط بل من الهدف الاسمى وهو " اكتشاف " الحقيقة ؟ اوليست مؤسسة Discovery هي " اكتشاف " الحقيقة بذاتها؟



ان لبنان كان ـ وما زال ـ صلة وصل بين الشرق والغرب، وهو متعدد الثقافات وان الثقافة اللبنانية صنعت بطريقة معيّنة لنسج الاواصر العالمية. وان قواعد الاثبات جعلت من الممكن خياطة هذه الروابط او انشاء روابط للقانون التصالحي، بحيث يجب ان تكون الثقافة الدولية الناهضة من المجتمع الداخلي ( وهنا اللبناني ) ثقافة توحيدية تؤدي الى تقويض الانغلاق، ليس فقط على المستوى الاجرائي، بل على مستوى الثقافة القانونية بصورة عامة.



اذن فان الثقافة القانونية الاجرائية لا تحول اطلاقا دون قبول المؤسسات القانونية الانكلوسكسونية في نظامنا القانوني اللبناني ـ هذا من جهة الثقافة، اما من جهة النصوص القانونية، فقد افرد المشترع اللبناني في قانون اصول المحاكمات المدنية ( الفصل الثاني ـ القسم الخامس من الباب الثالث المعنون " الاثبات ") قسما خاصا معنونا: " الزام الخصم والغير بتقديم مستند تحت يده " في المواد 203، 204، 205، 206، 207، 208، 209 منه.



لسنا هنا بمعرض اجراء مقارنة بين مؤسسة Discovery الانكلوسكسونية وبين النصوص اللبنانية المنظمة لالزام الخصم والغير بتقديم مستند تحت يده، المنصوص عنها في النصوص اعلاه، ولكننا نكتفي بالاشارة الى التقارب بين تلك المؤسسة الانكلوسكسونية وهذا الجزء من قانون اصول المحاكمات المدنية اللبناني، ما يجعل مؤسسة Discovery غير مخالفة للنظام العام الاجرائي اللبناني بمفهوم القانون الدولي الخاص ولقوانين الاثبات الوطنية الالزامية التطبيق، بل مكملا صحيحا ومفيدا لها.



ليس هذا فقط، بل ان شركات المعلومات في لبنان منتشرة وتزداد انتشارا يوما بعد آخر. وهذه الشركات متخصصة في جميع المعلومات عن الاشخاص والمؤسسات وهي تزود كل سائل بالمعلومات اللازمة والكافية، بل اكثر من ذلك فانه توجد في لبنان فهارس مطبوعة ورقيا وتجدد سنويا تتضمن بين دفتيها، معلومات خطية عن اشخاص ومؤسسات، بدءا من عناوينها ومراكزها وممتلكاتها وانتهاء بالدعاوى المرفوعة منها او بوجهها، مرورا بكل مفاصل عملها وذممها المالية. فشركات المعلومات في لبنان مرخص لها بان " تفضح " كل مستور، فكيف لا يحق الاستحصال على ذات المعلومات من الخارج وعن طريق مؤسسة " Discovery " ؟!



واكثر من كل ذلك ، فان للمصارف في لبنان اقساما داخلها تعنى بالاستعلام عن اي شخص قد يتقدم الى المصرف للاستحصال على قروض او تسهيلات ، وان هذه الاقسام المسماة Service de Renseignement bancaire تتبادل المصارف بموجبها المعلومات فيما بينها. وكم من شخص خسر فرصة الاستحصال على قرض او تسهيلات من مصرف لبناني او اجنبي عامل على الاراضي اللبنانية بسبب سوء المعلومات الواردة الى المصرف عنه والتي يكون مصدرها اما شركات المعلومات المحكى عليها اعلاه واما " الاستعلام المصرفي " الذي لا يترك لا شاردة ولا واردة الا للاستعلام عنها حماية للمصارف من " الزبائن السيئين ".



واكثر من كل ذلك، لدينا في لبنان جهاز يعمل لدى مصرف لبنان إسمه " مركزية المخاطر Central des risques " هذا الجهاز يملك معلومات هائلة عن التجار وسواهم من اللبنانيين والاجانب العاملين في لبنان وهو جهاز رسمي يعمل منذ زمن طويل في لبنان ويشبه الى حد بعيد مؤسسة " Discovery ".



فكيف ـ والحالة على ما هي اعلاه ـ يجيز البعض لنفسه القول بانه لا يصح إعمال مؤسسة Discovery من خلال المنظومة القانونية اللبنانية الحالية؟



وفي النهاية نقول بان زمن العولمة mondialisation يأبى ان " نتقوقع " في زوايا نظامنا الاجرائي، فنحرم الحقيقة من فرص " اكتشافها ". اليست مؤسسة Discovery هي مؤسسة "استكشاف الحقيقة "؟



لا بد في هذا السياق من الافكار من القول انه منذ سنوات خلت كان يوجد ثمة تعارض في موضوع الاثبات بين النظامين الرومانو ـ جرماني والانكلوسكسوني. فالاجراءات في الانظمة الانكلوسكسونية المختصة بالاثبات تبدو اليوم أقرب الى النظام الرومانوـ جرماني (الذي ينتمي اليه النظام القانوني اللبناني )، فالقاضي اللبناني اصبح أقرب الى " إفشاء المعلومات " من السابق، بسبب تأثر النظام الرومانو ـ جرماني ( واللبناني خصوصا ) بقواعد الاثبات الانكلوسكسوني Preuves anglo – Saxones .



يرى البروفسور A. Zuckerman ان " اجراءات الافشاء " ترتدي اهمية خاصة في النظام الانكلوسكسوني، الى درجة اكتساب دلالة دستورية Signification constitutionnelle فهي ترمي الى غاية مزدوجة: ضمان صحة القرار القضائي في ضوء الوقائع وخلق ثقة في النظام الاجرائي، لكي يصبح فعالا في حل النزاعات. ويرى H. Dennis بأن مؤسسة " Discovery " هي ذات نفع عام لانها تؤدي فعليا الى حماية الوصول الى الوثائق والمستندات، لتفادي خطر الوقوع في اصدار قرارات قضائية ناقصة تكون في النهاية وليدة اخطاء قضائية.



ويمكننا اعطاء امثلة أخرى على تقارب التضامن الرومانو ـ جرماني والانكلوسكسوني، من بينها معاهدة روما بشأن القانون المطبق على الالتزامات العقدية العائدة للعام 1980 والمعاهدة المتعلقة بالبراءات الاوروبية للعام 1973 La Convention sur le brevet européen de 1973 ، او حتى معاهدة الامم المتحدة بشأن عقود بيع البضائع الدولية للعام 1980.



نستطيع القول بأن المسافة بين النظامين الانكلوسكسوني والرومانو ـ جرماني في ما يخص مؤسسة " Discovery "، لم تعد بعيدة، فالتأثير المتبادل بين النظامين قد أدى الى تأقلم قواعد الاثبات في النظامين مع بعضهما البعض.


في الخلاصة نقول بأن مؤسسة " Discovery " الانكلوسكسونية تلزم الخصوم بالكشف عن اي مستند بحوزتهم، سواء أكان يصب في مصلحتهم ام لا.



في لبنان كان نظام الاثبات السابق يقوم على حرية الخصوم في ابراز المستندات التي تصب في مصلحتهم فقط. ولكن يعود للمتقاضين في لبنان ان يستحصلوا على اي معلومات تكون ضد مصلحة خصومهم بوسائل أخرى كثيرة ومتعددة ومنها ـ كما ذكرنا ـ جواز الاستحصال على ارقام العقارات التي يملكها خصمهم داخل لبنان بواسطة معاملة " نفي الملكية" التي تنجزها مديرية الشؤون العقارية ـ المركز الآلي، ويتم تزويد الخصم مقدم الطلب بارقام العقارات التي يملكها الشخص المطلوب كشف اسراره. كما يمكنه معرفة جميع العقود المبرمة من خصمه عن طريق مراجعة السجل التجاري. وتبقى شركات المعلومات هي المصدر الكبير للمعلومات عن الخصوم وهي شركات معترف بها ومرخصة من الدوائر الرسمية المختصة، فضلا عن " مركزية المخاطر" لدى مصرف لبنان المركزي الذي يفيدكم بكل المعلومات عن الشخص المراد الاستفسار عنه. هذا عدا عن بعض المنشورات الاقتصادية التي تخصص صفحات للمعلومات عن بعض الجهات الاقتصادية النافذة.



بقي ان نقول في هذا السياق بان التعارض بين النظامين الرومانو ـ جرماني والانكلوسكسوني، قد غاب بصورة شبه كاملة منذ ادخال Civil Procedure Rules الى انكلترا، بحيث اصبح النظامان متقاربين.



اما الممارسة العملية في البلدان التي تعتمد النظام الرومانو ـ جرماني، فقد بدات تظهر فيها مؤسسة " Discovery " لانها تضمن المساواة بين الخصوم، وتؤدي الى " الكشف المفيد " Divulgation utile للمستندات التي بحوزة الخصم وليست في مصلحته. هذا فضلا عن انها تؤدي الى تسريع الاجراءات من خلال " الكشف " عن مستندات او وثائق مستورة، وهي في الغالب تكون منتجة ومفيدة، فيتم من خلالها حسم بعض النقاط ، ما يؤدي الى توفير كبير في الوقت الذي تستغرقه المحاكمة.



ولا بد من الاشارة في هذا السياق من الافكار ان العولمة لا تقتصر على الناحية الاقتصادية، بل تشمل ايضا الناحية القانونية، من خلال التقارب بين الانظمة، اذ ان التعارض بينها يؤدي الى نتائج رادعة في كل من البلدان التي تعتمد النظام الانكلوسكسوني او النظام الرومانو ـ جرماني. وهذا ما ينعكس ضررا على المتقاضين، اذ ان ما يعتد به في القانون الدولي الخاص هو تنازع مصالح الافراد ذات الطابع الدولي وليس تنازع الانظمة ! فلا يجب ان تكون الابواب مغلقة بين النظامين، بل يجب ان تكون مشرعة على مصراعيها. وقد عمدت محكمة La Chancellerie du Delaware الى محاولة التوفيق بين اجراءات جمع الاثبات عن طريق مؤسسة " Discovery " الانكلوسكسونية، وبين الاستنابات القضائية الدولية المعمول بها في القانون الفرنسي المنتمي الى العائلة القانونية الرومانو ـ جرمانية التي ينتمي اليها النظام القانوني اللبناني ايضا، عبر ما يسمى " قانون المنع " " Loi de blocage " الصادر في 26 تموز 1968، وبالاستناد الى معاهدة لاهاي تاريخ 18 آذار 1970.



لقد سار القضاء اللبناني في هذا الاتجاه، اذ جاء في احدى حيثيات قرار محكمة الاستئناف المدنية في بيروت، الغرفة الرابعة الناظرة في قضايا التحكيم ، الصادر في 1/6/2023:



ان فعل الاستحصال على معلومات عن تحويل مبالغ مالية من مصرف أجنبي، لا يشكل بحد ذاته مخالفة مخالفة لقانون السرية المصرفية الذي يربط المصارف اللبنانية دون الاجنبية. ولكن اضافت المحكمة ان الاستناد الى الدليل المنبثق عن هذا التحويل، يصطدم مع موجب المصرف بالتقيد بقانون السرية المصرفية الذي يمنعه من التعليق على مستند التحويل؛ فاعتماد المستند كدليل دون تمكين المصرف من مناقشة صحة مضمونه ، يخالف مبدأ الاستقامة في الاثبات لان مجرد عدم تمكنه من الدفاع عن محتوى هذا الدليل يتنافى مع مقتضيات العدالة وحسن النيّة في العلاقات الاثباتية ويؤدي الى وجوب عدم الاخذ به وتجريده من اية مفاعيل قانونية.

وتأسيسا على ما تقدم اعتبرت محكمة الاستئناف ان القرار التحكيمي يكون مخالفا للنظام العام الدولي سندا للفقرة الخامسة من المادة 817 أ.م.م ما يستوجب ابطاله.



ماذا يعني ذلك؟



ذلك يعني ان اعتبار مؤسسة Discovery مصدر للاثبات، ليس بذاته مخالفا للنظام العام اللبناني الاجرائي بمفهوم القانون الدولي الخاص، بشرط ان يتمكن القاضي ( او المحكم ) من وضع الدليل الناشىء عن هذه الوسيلة الاجنبية، قيد المناقشة العلنية، تأمينا لحقوق الدفاع. وفي الحالة المعروضة امام محكمة الاستئناف، كان ذلك متعذرا على المصرف الاجنبي، لانه كان مرتبطا بقانون السرية المصرفية الذي يمنعه من التعليق على مستند التحويل، ما يخالف مبدأ الاستقامة في الاثبات. فاذا كان صحيحا ان المصارف الاجنبية غير مقيدة بالسرية المصرفية، فان العامل منها على الاراضي اللبنانية، يخضع للسرية المصرفية المعمول بها في لبنان، التي لا تشمل فقط المصارف اللبنانية بل ايضا الاجنبية العاملة في لبنان.



د ـ في انطباق مؤسسة " Discovery " على المادتين 139 و140 من قانون اصول المحاكمات المدنية اللبناني:


تنص المادة 139 أ.م.م انه "تجوز اقامة الدليل على الاعمال القانونية وفقا لقانون الدولة الذي يطبق على آثار هذه الاعمال او وفقا لقانون الدولة التي انشئت فيها.


يخضع قبول الدليل على الاعمال المادية لقانون القاضي الذي ينظر بالنزاع. تخضع القوة الثبوتية للاسناد لقانون المحل الذي أنشئت فيه ".



ان تحليل هذه المادة يحملنا على ابداء ما يلي:



ان الاعمال القانونية تخضع لقانون الدولة الذي يطبق على آثار هذه الاعمال او لقانون الدولة التي انشئت فيها.

في الحالتين اعلاه ان القانون الاميركي هو الواجب التطبيق لان الاعمال القانونية المراد اثباتها قد انشئت في اميركا وهي تخضع تاليا للقانون الاميركي، الذي يحتضن مؤسســــــــــة "Discovery" ، وفي حال اعتبرنا ان آثار هذه الاعمال القانونية حصلت في لبنان، فالقانون اللبناني يعتبر بالنسبة للغير الذين ليسوا اطرافا في الاعمال القانونية، ان الاعمال القانونية هي وقائع مادية بالنسبة اليهم، والاعمال المادية يصح اثباتها بمختلف الوسائل، فأين المانع من اثباتها بواسطة مؤسسة " Discovery " ؟!



اذن ان المادة 139 في حالتي تطبيقها، تجيز تطبيق مؤسسة " Discovery " كوسيلة اثبات.


وتنص المادة 140 أ.م.م أنه " تخضع اجراءات الاثبات لقانون القاضي الذي تتم امامه، مع ذلك يعتد باجراءات الاثبات التي تمت في دولة اجنبية اذا كانت مطابقة لاحكام القانون اللبناني، وان كانت مخالفة للقانون الاجنبي. ومن الجائز انابة محكمة اجنبية لاتخاذ اجراءات اثبات يقتضيها نظر الدعوى".



اذا حللنا هذه المادة، نخلص الى ما يلي:


اذا اعتبرنا ان اجراءات الاثبات سوف تخضع لقانون القاضي الذي تتم امامه، وان القاضي اللبناني هو المقصود هنا، فان القاضي اللبناني يمكنه ان يقبل بتطبيق مؤسسة " Discovery " بدون اي اشكال طالما ان القاضي اللبناني غير مختص لتقييم مصدر اثبات المعلومة المعروضة عليه. كما ان اجراءات الاثبات وفقا لمؤسسة " Discovery " ليست مخالفة للنظام العام اللبناني، بل ليست غريبة عنه، اذ ان مؤسسة " Discovery " تشبه الى حد بعيد مؤسسة " مركزية المخاطر" العاملة كجهاز من ضمن اجهزة مصرف لبنان، كما انها ليست بعيدة عن شركات المعلومات التي تزود اللبنانيين بكل المعلومات المطلوبة، اللازمة لرفع اي دعوى ناهيك عن الاجهزة العاملة لدى المصارف اللبنانية المسماة "خدمة المعلومات" Service de renseignement التي تتبادل المعلومات فما بين المصارف بموضوع العملاء او حتى بموضوع من يرغب في التعامل مع اي مصرف لبناني.



اما موضوع الانابة فليس مطروحا هنا. اذ لا يعقل ان تستنيب محكمة لبنانية محكمة اجنبية لانجاز اجراء لا يدخل اصلا في اختصاص القضاء اللبناني. فليس على القاضي اللبناني ان يجمع معلومات عن المتقاضين بل ان الاثبات من مهمة الخصوم ويقتصر دور القاضي على تلقي هذه المعلومات لاتخاذ اجراءات بالاستناد اليها.


ان المادتين 139 و140 أ.م.م. تصبان بإتجاه قبول تطبيق مؤسسة " Discovery " في لبنان وليس رفضها.

ولكن،


لا بد من التوضيح بأن المادتين 139 و140 أ.م.م تتناولان " اجراءات الاثبات"، بينما مؤسسة " Discovery " ليست بذاتها اجراء من اجراءات الاثبات، بل هي وسيلة لجمع المعلومات، هي بعبارة أخرى مصدر للمعلومات، ولكنها لا تتعارض باي شكل من الاشكال، مع النظام القانوني اللبناني، حيث نجد مثلا ان معرفة اسماء مالكي العقارات يتم وفقا لمعاملة اسمها " معاملة نفي الملكية " اذ يمكن لاي كان ان يتقدم من "مديرية الشؤون العقارية ـ المركز الآلي" في وزارة المالية، بطلب غير مبرر، اذ يكفي ان يضع في خانة "الغاية من الطلب": للاستعلام ! فكيف تكون مؤسسة " Discovery " مخالفة للقانون اللبناني ؟!



هذا بالنسبة للملكية العقارية؛ ايضا بالنسبة للسجل التجاري، فانه يمكننا في لبنان الاطلاع على محتويات السجل التجاري كافة من خلال التقدم بطلب غير مبرر للافادة عن قيود ووقوعات اي شركة مسجلة لدى السجل المذكور، حيث يعطى طالب الافادة نشرة تصدر بصورة الكترونية تتضمن كل المعلومات عن الشركة . فكيف تكون مؤسسة " Discovery " مخالفة للقانون اللبناني ؟


ثالثا: في النتيجة



ان مؤسسة Discovery مقبولة في النظام القانوني اللبناني للاسباب المبيّنة في متن هذه الدراسة. ولا أرى مانعا يحول دون قبول المحكمة اللبنانية بها، في معرض نظرها بالنزاع العالق بين طرفين، خصوصا بين عميل ومصرفه.

ان النتيجة التي ترمي اليها مؤسسة Discovery وهي الاطلاع على اصول اي طرف، لا سيما المصرف في الخارج، وعلى تحويلاته بالدولار الاميركي الى مصارف خارج لبنان، ستاخذ بها المحاكم اللبنانية حتما، لانه لا علاقة للمحاكم اللبنانية بمصدر المعلومات التي يحصل عليها المتقاضي ! فما شان المحاكم في لبنان إن تقدم احد المتقاضين بطلب القاء حجز احتياطي على اصول او اموال خصمه ؟ فهل تسأله المحكمة اللبنانية عن مصدر معلوماته بشأن وجود هذه الاموال؟! بالطبع كلا، اذ لا مبرر قانوني او حتى منطقي للرفض.



فأي قانون يمنع المتقاضي من التقصي على اصول او اموال خصمه لممارسته حقوقه المشروعة عليها ؟! واصلا ليس للمحكمة اللبنانية ان تبحث او حتى تسأل عن مصدر هذه المعلومات ! فمن يريد ان يطعن بمؤسسة Discovery عليه ان يطعن باجراءاتها في الخارج حيث حصلت او ستحصل وليس في لبنان، حيث ليس من اختصاص القضاء اللبناني ان يبحث في مصدر معلومات المتقاضين واكتشافه للاصول والاموال التي يمتلكها خصمهم ! فتكون المشكلة المطروحة عن مدى جواز القبول بنتيجة تطبيق مؤسسة Discovery في لبنان مشكلة " وهمية " Faux problème غير قائمة اصلا ! فمن يريد الطعن بمؤسسة Discovery عليه ان يطعن فيها حيث تدور اجراءاتها. اما عند اتمام الاجراءات ، والاستحصال على النتيجة، فانه لا يحق للمحاكم اللبنانية ـ باي شكل من الاشكال ـ ان ترفض اتخاذ اي اجراء على اموال او اصول المتقاضي بذريعة ان آلية استحصاله على المعلومات التي مكنته من " اكتشاف " هذه الاموال او الاصول، غير مقبولة في لبنان ! فهذا ـ بدون ادنى شك ـ هرتقة قانونية واجرائية غير مقبولة.



على ذلك،


ان مضمون هذه الدراسة يعبّر عن قناعاتنا الثابتة في ضوء تفسيرنا الصحيح للقوانين اللبنانية المرعية الاجراء، خصوصا لجهة عدم وجود اي مانع يحول دون قبول " مؤسسة Discovery " في لبنان من جهة؛ ولعدم اختصاص المحاكم اللبنانية للتحري عن قانونية السبل التي لجأ اليها احد الخصوم في الخارج للاستحصال على معلومات مفيدة للدعوى، بل يبقى الطعن جائزا امام المرجع الذي قرر السير بآلية Discovery وليس في لبنان.



ولكن تبقى النقطة الوحيدة التي اثارتها محكمة الاستئناف في قرارها تاريخ 1/6/2023، والتي اعتبرت بموجبها ان شروط مراعاة مبدأ الاستقامة في الاثبات يجب ان تكون متوافرة، خصوصا لجهة مناقشة الادلة الناشئة عن استعمال وسيلة Discovery ووضعها قيد المناقشة العلنية، تأمينا لحقوق الدفاع ، وصونا للنظام العام بمفهوم القانون الدولي الخاص المنصوص عنه في المادة 817 أ.م.م الاان هذه الحالة قلما تتوافر في الممارسة العملية. وقد توافرت في حالتنا الراهنة، بسبب قانون السرية المصرفية، اذا اعتبرت محكمة الاستئناف في بيروت ان عدم تمكن المصرف من مناقشة المستند المثبت لتحويله المبالغ، بسبب ارتباطه بالسرية المصرفية، يشكل مسّا بحقوق الدفاع وتاليا مخالفة لمبدأ الاستقامة في الاثبات الذي يبدو ان محكمة الاستئناف ارتقت به الى مبدأ عام مرتبط بالنظام العام الاجرائي Ordre public procédural بمفهوم القانون الدولي الخاص، ارتباطا وثيقا.



في الخلاصة نقول، ان الانظمة القاونية، مع ظهور العولمة لم تعد مقفلة على ذاتها، بل انفتحت على بعضها البعض. وهذا مؤشر جيّد، يساهم في سهولة تنفيذ القرارات القضائية والتحكيمية على حد سواء في الخارج، فضلا عن انه يغني الثقافة القانونية ويزيد من الاهتمام بالقانون المقارن، فعسى ان تتطور منظومتنا القانونية لتصبح متماشية مع العصر وقابلة لاستقبال اي مؤسسة قانونية اجنبية.



MISS 3