زيزي إسطفان

الهرمل المحرومة تفتح طاقة أمل لأبنائها المنسيّين

"دار البهيج" إحتضان شيعي لمبادرة مسيحيّة

25 أيلول 2023

02 : 00

«دار البهيج»

جميلة هي بلدة الهرمل ومضيافة، لا تشبه صيتها ولا تأوي طفّاراً وخارجين عن القانون في أرجائها وإن كان بعضهم يجدون لهم مأوى في الجرود المحيطة، محرومة من وجود الدولة وهيبتها باعتراف أهلها لكنها تعوّض الغياب بنشاط حزبي معروف الملامح ونشاط أهلي يتجلّى في عدد الجمعيات المتواجدة على أرضها. بلدة شيعية صرف لكنها لا تزال تؤمن بالتعايش وتسعى إليه، واليوم تعيد الهرمل إفتتاح دار لاستيعاب الأطفال ذوي الإعاقة العقلية أنشئت في ثمانينات القرن الماضي بإدارة مسيحية.



بحبّ كبير يتحدّث أهل الهرمل عن بلدتهم التي صارت مدينة ريفية كبرى ويرسمون لها صورة مختلفة عن الصورة المطبوعة في بال الكثيرين. الهرمل المنطقة النائية تتطوّر عمرانياً وإنمائياً وسياحياً لكنها لا تزال بحاجة للكثير. هي أقرب الى حمص السورية ممّا هي الى الدولة اللبنانية التي باتت بعيدة عن نفسها وهي اليوم إلى حرمانها وكثرة احتياجاتها تحمل عبء اللاجئين السوريين الذين تملأ مخيّماتهم المنطقة. لكن رغم كل أعبائها تسعى الهرمل لتعين أهلها وسكّانها وتخفّف عنهم و»دار البهيج» المركز المخصّص لذوي الإعاقة العقلية خير مثال على رغبة الهرمل في احتضان كل أبنائها حتى لا يبقوا خارج الخارطة الإنسانية والجغرافية للوطن.


عودة دار البهيج: إحتضان وترحيب


حول مشروع الدار اتحدّ أبناء الهرمل ليعملوا يداً واحدة على إنجاز الأعمال فيها لإعادة افتتاحها بعد عقدين من الإقفال. الحاجة الى دار تحتضن ذوي الإعاقة العقلية كبيرة في البلدة إذ بيّنت الإحصاءات أن عدد من يعانون من إعاقات عقلية مختلفة يقارب 120 حالة لا تلقى الاهتمام المطلوب لا بل تشكل عبئاً مادياً ونفسياً وعملانياً كبيراً على الأهل في منطقة بعيدة عن كل التسهيلات الطبية المتخصّصة. قلّة من يسمح لهم وضعهم المادي بإرسال ولدهم الذي يعاني إعاقة عقلية الى بعلبك أو زحلة لتلقي العناية والتدريب فيما الأكثرية تعاني بصمت غير قادرة على فتح أية نافذة أمل أمام هؤلاء الأطفال.



السيد فادي نصر الموفد من قبل مجلس كنائس الشرق الأوسط يعمل اليوم على إعادة إحياء «دار البهيج». الأمر مفاجئ، فكيف لمؤسسة مسيحية أن تعمل في منطقة يكاد يغيب عنها الوجود المسيحي؟ لكن كلّ من تكلمنا معهم ساهموا في تبديد استغرابنا. فالهرمل وأهلها أكثر من مرحّبين بالمشروع لا بل إن مجموعة من 15 شخصاً من أهل البلدة يعملون كلجنة أو هيئة تأسيسية للمساعدة في إخراجه الى الضوء.



«إتصلنا بالجميع والكل مرحّب ومتحمّس تقول ابتسام جعفر شمص وهي عضو في اللجنة، لم نشهد أي اعتراض أو لبس كون إدارته مسيحية بل على العكس الجميع يستعيدون ما كان لهذا المركز في الماضي من صيت طيّب، فهو كان المنارة التي فتحت الطريق لإيواء حالات لم يكن أحد ليهتمّ بها أو يعرف عنها في السابق. حتى الحزب رحّب بالأمر وأبدى كلّ استعداد للمساعدة. الهرمل ناسها طيّبون يقيمون أفضل العلاقات مع أهلهم في القاع والفاكهة والجديدة ورأس بعلبك وفيها دير لراهبات أخوات يسوع الصغيرات يلقى كل المحبة والاحترام من أهل البلدة».



من جهتها، تؤكد سعاد بليبل وهي عضو في اللجنة التأسيسية أن «الهرمل ليست متعصبة أو منغلقة ونحن إذ نمارس ديننا وطقوسنا نرحّب بالتنوّع ونسعى إليه. علاقتنا بالأخوات مصدر فرح لنا وكل العائلات داخل الهرمل حتى أكثرهم تديّناً هم مع افتتاح هذه المؤسسة وإدارتها من قبل المسيحيين. ربما إدارة من خارج البلدة تلغي كل اختلاف محتمل بين أهلها وأبنائها».



في عزّ استعار الحرب الأهلية في العام 1985 افتتحت دار البهيج في الهرمل، أوجدتها الصدفة حيث كانت إحدى الموظفات في الدير تصطحب ابنها الذي يعاني إعاقة عقلية معها الى العمل كونها لا تجد له مكاناً تتركه فيه، وفي حين كانت الراهبة تلاعبه ولدت فكرة إيجاد مركز لهؤلاء الأطفال في زمن كان الأهل يجهلون كيفية التعامل معهم أو حتى يخجلون بهم. نشأت الدار واستمرّت في عملها حتى العام 2010 حيث أجبرتها ظروف مختلفة على إقفال أبوابها تاركة خلفها فراغاً لم يجد من يملأه.



بحاجة إلى الكثير




روح الأخوة في اجتماعات العمل



الوجه الجميل للهرمل

لكن الهرمل اليوم اختلفت عمّا كانت عليه منذ عقد ونيف وبشهادة أبنائها صارت بلدة مزدهرة ويكفي مشوار إليها ليلاحظ الزائر جمال وترتيب الطريق الواسع الذي يربطها بالطريق الدولي الى حمص والذي تمّت إضاءته بالطاقة الشمسية بهبة إيرانية. مهندسة رومانية عملت في البلدية وقامت بأعمال كثيرة ساهمت في تطوير البلدة. المنتجعات السياحية على نهر العاصي صارت اليوم تجتذب الزوار اللبنانيين والسياح الأجانب والعرب وتساهم في نهضة الهرمل.



«الهرمل تعوّض بإرادة أهلها وحبهم للعلم والثقافة عن الحرمان الذي عانته لعقود طويلة ولا تزال تعاني منه» تقول ابتسام شمص، «فالبلدة تضمّ نسبة عالية من المتعلمين والمثقفين والشعراء وكذلك تضمّ عدداً كبيراً من النوادي والجمعيات الثقافية والأهلية وعدداً لا بأس به من المدارس الرسمية والخاصة. حيثما توجّه أبناء الهرمل يسعون للتفوق في الدراسة لأنهم يرون في ذلك السبيل الوحيد لخروجهم من الوضع الذي حصرهم فيه موقع بلدتهم وغياب الدولة والإنماء عنها».



لكن ما يصيب لبنان اليوم من أزمات يصيب الهرمل وتقول إحدى السيدات: «لولا الحزب والجمعيات لكان الناس يأكلون بعضهم البعض. فالهرمل رغم ما تشهده من تطوّر لا تزال الوظائف فيها محدودة فإما تجارة بسيطة أو وظيفة رسمية أو الانتماء الى الأحزاب والجمعيات، كثر من الشباب التحقوا بالأحزاب وينالون رواتب منها وعدد كبير من العائلات المستورة فيها يتلقّى مساعدات من الجمعيات المحلية الفاعلة بقوة. لكنّ كثراً من أبناء البلدة لجأوا الى الهجرة كحلّ لا الى الدول العربية التي أقفلت أبوابها في وجههم بل الى أوروبا وفرنسا بالذات والى أفريقيا. لكن الأخطر»، تقول السيدة التي تتكلم عن معرفة ووعي «أن المدارس الرسمية التي كانت تضمّ الطبقات الفقيرة والمتوسطة باتت اليوم على أبواب الفشل وهي تدفع بطلابها دفعاً الى اللجوء الى الأحزاب والآفات. مهما حاولنا لا يمكننا أن ننكر وجود الحشيشة وتجارها في الجرود والتجاوزات والتفلت الأمني الذي يظهر بين الحين والآخر في البلدة وعلى عين المخفر».




تعايش في الهرمل




الجميع مرحّب ومتحمّس




قاموع الهرمل






طاقة أمل

الهرمل المتروكة من قبل الدولة وجدت من يقف الى جانبها وكان قرار مجلس كنائس الشرق الأوسط بإعادة إحياء مركز «دار البهيج « وفتح أبوابه لاستقبال الأولاد بدءاً من تشرين الأول إذا أمكن. عن المركز يقول مديره المسؤول فادي نصر إنه لم يشأ أن يعمل وحده وأصرّ على أن تكون حوله لجنة من أبناء البلدة تضمّ 15 شخصاً، تعرف احتياجاتها وأهلها وتتعاضد للمساهمة في إرساء قواعد صلبة للمشروع وتشكل الإطار المجتمعي السليم لدعم المركز. «هدفنا إيواء أكبر عدد ممكن من الأولاد ومنحهم العناية المطلوبة وخلق توعية حول موضوع الإعاقة العقلية بغية احتضان من يعاني منها ومنحه ملاذاً آمناً وقيمة اجتماعية بدل إبقائه على هامش الحياة إضافة الى خلق فرص عمل جديدة لا سيّما بالنسبة للمتخصّصين في مجال العمل مع ذوي الإعاقة العقلية. الدار كما هو مخطّط لها سوف تضمّ دوامين لاستيعاب 50 ولداً يتوزعون على ستة صفوف وسوف تعمل على تأمين أنشطة متخصصة حركية وذهنية تساعد على تحسين أهلية هؤلاء الأطفال وتنمية قدرتهم على المشاركة في النسيج الاقتصادي والمجتمعي للهرمل. إنها شريان حيوي يعيد وصل ما انقطع بين ذوي الاحتياجات الخاصة ومحيطهم ويعزز التعاطف والقبول بين أفراد المجتمع».

وزارة الشؤون الاجتماعية تشرف من بعيد ولا رعاية مباشرة لها للمركز رغم وجود شخص من قبل الوزير يقدّم بعض المساعدة. «الكلفة المادية لتجهيز المركز مرتفعة بلا شك لكن الهبات كثيرة» يقول فادي نصر، «ليست هبات مالية بل عينية فالكل يقدّم الأعمال التي يجيدها أو يتبرّع بما يحتاجه البناء من تجهيزات. حتى المختصون مستعدون للتطوّع لتقديم خدماتهم لكن الدار لا تزال بحاجة الى المزيد من التبرعات والمساعدة لتكون جاهزة في أقرب وقت لا سيّما مع الارتفاع المضطرد في كلفة البناء والتجهيزات. أما الأهل فسيدفعون قسطاً رمزياً قد لا يتعدى 25 دولاراً في الشهر ليساهموا بدورهم في إبقاء الدار مفتوحة أمام أبنائهم».

إحدى الأمهات تعدّ الأيام الى حين افتتاح الدار، متلهّفة هي لإرسال طفلها الى حيث سيكون مع رفاق له كما لو أنه في مدرسة ولن ينزوي وحيداً في البيت. «حاولت وضعه في أكثر من مدرسة وفشلت وهنا أنا متأكدة أنه سيتعلم الاعتماد على نفسه ويتابع برنامجاً تربوياً خاصاً بحالته وسيصبح لديه رفاق يشبهونه. فكّرت أكثر من مرة بترك الهرمل للبحث عن مكان مخصّص لابني لكن الرحيل صعب ومكلف والآن طاقة أمل انفتحت أمامه وأمامنا... لم نعد متروكين، والأهم يمكننا أن نعيش بكرامتنا في بلدتنا».

«الهرمل لم تكن يوماً ممسوكة من قبل طرف واحد» تقول سعاد بليبل «وليس فيها مصفقون يسيرون بشكل أعمى وراء فئة أو زعيم، منذ الاستقلال تتميز بتنوّع التيارات والأحزاب والجمعيات وهذا ما يجعلها خارج الطابع الديني والسياسي. جيلها القديم تربّى على مبادئ علمانية منفتحة ويسعى لنقلها الى أبنائه».

الهرمل بوجهها الجميل تطالب بالدولة والقانون فوحدها الدولة قادرة على ضبط التجاوزات كما تقول نخبة أبنائها، لكن هل تستجيب الدولة أو تجرؤ على بسط سلطتها في الأطراف؟


MISS 3