تاتيانا ستانوفايا

نظام بوتين يتصدّع!

15 أيار 2020

02 : 00

يبدو أن مناورة بوتين الذكية للاستغناء عن أحكام الدستور الروسي حول حدود الولاية الرئاسية، ستسمح له نظرياً بالبقاء في السلطة حتى العام 2036. لكن من خلال إعادة صياغة الدستور وتعديل الحكومة، لم يكتفِ بوتين بزعزعة توازن معظم أركان النخبة الروسية، بل تكشف جهوده أنه بصدد بناء نظام سياسي جديد له توجّه محافظ وإيديولوجي ومعارض للغرب بدرجات مضاعفة. لكن لا تسير خطته بالشكل الذي تصوّره على ما يبدو. زاد تعقيد خطط تعديل النظام السياسي الروسي نتيجة انهيار أسعار النفط العالمية والاضطرابات غير المسبوقة التي سببها فيروس كورونا. جرى تعليق شبه الاستفتاء الذي كان مقرراً في 22 نيسان "للمصادقة" على التعديلات الدستورية، فيما يحاول الكرملين التعامل مع الفيروس المستجد والأزمة الاقتصادية الجديدة. تشكّل هذه التحديات المتزامنة أكبر صدمة يواجهها نظام بوتين على الإطلاق، ومن المتوقع أن يزيد منسوب الاستياء الشعبي.

للنجاح في معالجة هذه الأزمة، يجب أن يبذل القادة الروس جهوداً جماعية مدروسة. لكن جاء الوباء الآن ليسلّط الضوء على واقع قائم منذ وقتٍ طويل: أصبح بوتين بعيداً من الشؤون الروتينية في الحكم ويفضّل تكليف الآخرين بمعظم القضايا. خلال المرحلة الأولى من الأزمة الأخيرة، دعا بوتين حكومته الجديدة وحكّام المناطق بشكلٍ متكرر إلى تحمّل مسؤوليات أكبر. لكنّ فريق الرئيس الروسي ليس موحداً بأي شكل. لا ينشط نظام بوتين بالطريقة التي يتصورها الكثيرون، بل تتوسع الخلافات الداخلية بين خمس جماعات مختلفة في النخبة الحاكمة.

"حاشية" بوتين

تشكّل هذه "الحاشية" نواة فريق بوتين، وهي على تواصل يومي مع الرئيس شخصياً. استُبدِل أصدقاء وشركاء بوتين القدامى منذ العام 2000 تدريجاً بلاعبين أصغر سناً ولهم توجهات تكنوقراطية. أمضى عدد كبير منهم مسيرته كلها في الكرملين ولم يعمل في أي مكان آخر. تبقى وظائف حاشية الرئيس محدودة نسبياً، فهي تنظّم جدول بوتين، وتتولى تنفيذ البروتوكولات، وتحضّر اجتماعاته وتضمن أمنه.

أصدقاء بوتين ومساعدوه

يُعتبر مساعدو بوتين القدامى وأصدقاؤه من السنوات التي تسبق وصوله إلى السلطة جوهر النظام الداخلي. يُقال إن هذه الشخصيات هي التي تحكم البلد عملياً، لكنها فكرة مُضللة. تشمل هذه الجماعة رفاق بوتين السابقين منذ أيامه في الاستخبارات السوفياتية، وشركاءه في تدريبات الجودو، وشركاء عمله في جمعية "أوزيرو داشا التعاونية"، ومن عملوا معه في مكتب عمدة "سانت بطرسبرغ".

اليوم، يمكن تقسيم هؤلاء الأصدقاء والمساعدين إلى ثلاث فئات فرعية مختلفة: الأوليغارشيون، ومدراء الدولة، ورجال الأعمال من القطاع الخاص.

الأوليغارشيون

سيطرت هذه الجماعة على أجزاء واسعة من أصول الدولة في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، حين كان بوتين يسعى إلى إحكام قبضته على السلطة. ساعده أعضاء هذه النخبة على إعادة بناء "قوة روسيا العمودية" ومحاربة الأوليغارشيين من عهد بوريس يلتسين. لكن سرعان ما أصبحوا أوليغارشيين بدورهم، مع أنهم يتعاونون مع الدولة الروسية. ونظراً إلى مصالحهم المهنية الضخمة، هم يحملون رؤية عالمية ويفضلون تحسين العلاقات مع الغرب وتخفيف العقوبات عن البلد. يمكن اعتبارهم "الليبراليين داخل النظام"، بمعنى أنهم لا يريدون أن تتخذ روسيا مساراً محافظاً أو انعزالياً.


مدراء الدولة


إنها مجموعة أخرى من أصدقاء بوتين، وتشمل مسؤولين بارزين يعملون في الدولة منذ وقت طويل، مع أن أحداً منهم لم يبقَ في منصبه غداة القرارات الأخيرة في كانون الثاني الماضي. تبرز أربع شخصيات قديمة ومعروفة تعمل مع بوتين قبل أن يصبح رئيساً: ديمتري مدفيديف، ووزير الدفاع السابق ديمتري كوزاك، ومدير الإدارة الرئاسية سيرغي إيفانوف، وصديق بوتين القديم أليكسي كودرين. تناوب هؤلاء المسؤولون على مناصب مرموقة عدة، وهذا ما زادهم قرباً من الرئيس.


رجال أعمال من القطاع الخاص


هذه الفئة الفرعية الثالثة من أصدقاء بوتين القدامى تشمل من استفادوا من روابطهم الشخصية القديمة مع الرئيس الروسي. هم يأتون في معظمهم من "سانت بطرسبرغ"، منهم مساهمون في جمعية "أوزيرو داشا التعاونية" التي تأسست في منتصف التسعينات، وأصحاب "بنك روسيا" الذي تعتبره الخزانة الأميركية البنك الشخصي لكبار القادة الروس، بما في ذلك بوتين شخصياً.


السياسيون التكنوقراط


تتألف النخبة الروسية من مجموعتين أساسيتين: السياسيون والتكنوقراط. يدخل أصدقاء بوتين ومساعدوه القدامى وحُماة النظام القائم في الخانة السياسية. أما التكنوقراط (جزء من حاشية بوتين في الكرملين وعدد من البيروقراطيين في الحكومة)، فيؤدون دوراً محدوداً لكنهم يشكلون النواة البيروقراطية في نظام بوتين، وهذا ما يعطيهم نوعاً مختلفاً من السلطة.

المنفذون

المنفذون هم أكبر جزء من النخبة الحاكمة، لكنهم الأضعف سياسياً والأكثر عرضة للتغيير. يدخل معظم نواب رؤساء الوزراء في الحكومات السابقة ونواب ميخائيل ميشوستين الأربعة في هذه الخانة. وينطبق المبدأ نفسه على جميع الوزراء في الحكومة تقريباً. يُعتبر وزير الداخلية فلاديمير كولوكولتسيف منفذاً أساسياً للقرارات رغم نفوذه الكبير، وينطبق هذا التصنيف أيضاً على المدعي العام إيغور كراسنوف. يكون هؤلاء الوزراء تابعين للاعبين أكثر قوة، منهم شخصيات خارج الحكومة.


حُماة النظام


في السنوات الأخيرة، فيما أصبح الكرملين أكثر تحفظاً في توجهاته، زاد نفوذ هذه الجماعة الأساسية التي تسعى إلى حماية النظام من الأعداء الداخليين والخارجيين. يتقاسم حُماة النظام أفكاراً إيديولوجية متشددة ويميلون إلى قمع المعارضة السياسية. ترتكز قناعات هذه الفئة على نظريات المؤامرة، وهي تحاول تحريض المجتمع ضد التهديدات الخارجية وتؤيد فرض ضوابط أكثر صرامة على حياة الروس الخاصة والسياسية.





الـــــــخـــــــلاصـــــــة

قد تبدو النخبة الروسية، عند النظر إليها عن بُعد، متضامنة بالكامل تحت حكم الرئيس فلاديمير بوتين. ويأتي قراره بتعديل حدود ولايته الرئاسية ليرسّخ ذلك الانطباع الأولي. لكنّ الوضع الحقيقي مختلف بالكامل. أصبحت النخبة الروسية متصدعة جداً وتشوبها الخلافات. لا تتصارع الجماعات المتناحرة على النفوذ والأملاك فحسب، بل على الإيديولوجيا أيضاً. هذا ما يطرح مشكلة أكثر خطورة على بوتين لأن أقوى جماعة من تلك النخبة تحمل آراء أكثر راديكالية بكثير من آرائه الخاصة. وتتوسع الانقسامات بين أركان النخبة الحاكمة لدرجة أن تعجز عن التوصل إلى إجماع حول المسائل الأساسية. تتصرف كل جهة نافذة بناءً على أجندتها المؤسسية أو السياسية الخاصة وقد توسّع هامش المناورة الذي تتمتع به نظراً إلى غياب بوتين المتزايد عن صناعة القرارات اليومية.

تنقسم النخبة الروسية إلى الجماعات الخمس الآنف ذكرها، وتشكّل كل جماعة منها قانوناً بحد ذاته. هي تتكل على مفهوم بوتين القائل إن الفكرة الليبرالية "تجاوزت هدفها الأصلي". تنامى نفوذ هذه النخبة فيما أصبحت الإيديولوجيا التي تتبناها طاغية بكل وضوح. لكنّ هذه المواقف المتشددة تضعها في صدام مباشر مع شخصيات أخرى، على غرار مساعد بوتين القديم سيرغي شيميزوف، ورئيس الحكومة الأسبق ديمتري مدفيديف، وحاكمة البنك المركزي ألفيرا نابيولينا. يُمهّد هذا الوضع لصدام أعمق مع التكنوقراط على المدى الطويل، إذ تضطر هذه الجماعة للحفاظ على مواقف سياسية محايدة لكنها كُلّفت بتحديث الدولة. جاءت أزمة فيروس كورونا لتوضح حقيقة هذه المعركة. لم يعتد التكنوقراط يوماً على أخذ المبادرات خلال الأزمات، وقد فشلوا حتى الآن في إثبات قدرتهم على معالجة الوضع. أما حُماة النظام القائم، فأوضحوا أنهم يريدون اتخاذ المزيد من القرارات الحاسمة. على المدى الطويل، ستُحدد التطورات العالمية جزئياً مدى قدرة كل جماعة على بلوغ أعلى المراتب. كلما زاد الصدام بين روسيا والغرب، سيزعم حُماة النظام بأنهم يملكون الحق الأخلاقي بمحاربة الخصوم محلياً وخارجياً.

قد يؤدي المجتمع الروسي دوراً مؤثراً أيضاً إذا تعمّقت الأزمة الراهنة. ربما يحتجّ الرأي العام على الأخطاء التي ارتكبها قادة الحكومة وفشلهم في فهم حاجات المجتمع. وعلى المدى الطويل، قد تؤدي قلة الكفاءة في حكم البلد في ظل المخاطر الوطنية الكبرى إلى تسريع نشوء نخبة لا تدين بشيء لبوتين. في نهاية المطاف، ستشتق هذه النخبة البديلة في جوهرها من طبقة التكنوقراط ومؤيدي العصرنة كونها تشعر بخيبة أمل متزايدة من مسار بوتين.

لكن تبقى الانقسامات العميقة داخل فريق بوتين ميزة، وليست عائقاً أمام أسلوب الحكم في روسيا. بدا وكأن بوتين كان يستمتع، في معظم عهده الرئاسي، بأداء دور الحَكَم بين الجماعات المتنافسة ولطالما أكد على دوره المحوري في السلطة. كان ذلك الوضع يتماشى مع الثقافة السياسية الروسية التي تعود إلى بداية سلالة رومانوف قبل قرون طويلة، أو حتى الحقبة التي سبقتها. لكن اختفت تلك الثقافة اليوم في معظمها. لقد أنشأ بوتين مسافة كبيرة بينه وبين أتباعه، وهذا الشكل من عزل الذات يسبق انتشار فيروس كورونا. نتيجةً لذلك، هو يجازف بأن يصبح أسير مبادراتهم وإخفاقاتهم وخلافاتهم ومناوشاتهم الدائمة. على مستويات عدة، لم يكن تماسك نظام بوتين يوماً ضرورياً بقدر ما هو عليه الآن، لكنّ مظاهر وحدته باتت في أدنى مستوياتها اليوم.


MISS 3