مصطفى علوش

عندما يتحوّل الأهالي إلى دروع

3 تشرين الأول 2023

02 : 00

«فقل للمقيم على ذُلّه

هجيناً يُسخَّر أو يُلجَم

تَقحَّم، لُعِنتَ، أزيزَ الرصاص

وجرّب من الحظ ما يُقسَم

فإمّا إلى حيثُ تبدو الحياةُ

لِعينيْكَ مَكرمةً تُغنَم

وإمّا إلى حَدثٍ لم يكن

ليفضّلَه بيتُكَ المُظلِم

تَقحَّم، لُعِنتَ، فما ترتجي

من العيش عن ورده تُحرَم»

(محمد مهدي الجواهري)



كانت أيام عز في ستينات وسبعينات القرن الماضي. أيام الثورة على كل شيء، على السلطة وعلى التقاليد وعلى الاستعمار والرأسمالية. وحتى الولايات المتحدة الأميركية ذاتها شهدت ثورة أعلنها «الهيبّيون»، قادها شاعر اسمه ألن غنسبرغ، كادت أن تقضي على كل قواعد وثقافات العيش هناك. كانت المجموعات الثورية تتسابق على إعلان المسؤولية عن تفجير مقر أو إحراق سفارة أو خطف طائرة أو رجل أعمال، وحتى التجرؤ على اختطاف مجموعة من الوزراء من مقر الاجتماع المشدد الحراسة، كما حدث لوزراء أوبيك سنة 1975.

كان الجميع يعتبرون أنّ «التضحية في سبيل تحرر الشعوب» تستأهل خوض كل المخاطر، ولكن بوجه سافر معروف الإسم والعنوان. لا يمكن إنكار أنّ بعض تلك المجموعات المعلنة سقطت وتمّ التلاعب بها من قبل أجهزة مخابرات متعددة ومتضاربة، أحياناً بسبب الاستغفال واستغلال الحماسة، وفي أحيان أخرى بداعي شح التمويل والحاجة لتغطية تكاليف «العمل الثوري»! لكن، رغم كل ذلك، كان المنفذ لا يأبه لتداعيات عمله عليه شخصياً، ولم يكن يخطر بباله أصلًا بأنه يقوم بعمل إرهابي غير مشروع، بل كان يظن بأنه يرد الصاع لإرهاب أكبر وأشنع تمارسه السلطة القادرة والمتجبرة، بالطائرات والأساطيل ورجال الأمن والجيوش التي تتحول إلى أدوات قمع ليس إلا. لم يحاول أي منهم الاختباء وراء دروع بشرية، وحتى أرنستو تشي غيفارا، رمز اليسار الثوري، ذهب إلى الغابات في بوليفيا بدل الاحتماء في الأحياء السكنية خلف الأهالي، فقضت عليه المخابرات الأميركية بعد وشاية من الأهالي رعاة الماشية لأنّه تسبب بتطفيش ماشيتهم!

في تلك الأيام الخوالي، وأنا أسرد هذه الأمور ليس في مجال الثناء بل للمراجعة والمقارنة، كانت المنظمات الثورية تتسابق على أسبقية إعلان المسؤولية عن أي عمل عنيف ضد المصالح «الامبريالية والرأسمالية والصهيونية»، حتى يكون مجد أو تداعيات العمل على مسؤولية الفاعل المعلوم. التوباماروس، الدرب المضيء، الجيش الأحمر، بادر ماينهوف، الجبهة الشعبية... في جنوب أميركا وأوروبا وآسيا، كلها كانت تعلن عن نفسها من دون مواربة. حتى منظمة أيلول الأسود لم تخف كونها خرجت من رحم حركة فتح يوم انطلقت في السبعينات وقامت بمجموعة عمليات، تحمل قادة كبار من حركة فتح تبعاتها بالاغتيالات التي طالتهم بعدها.

شيء ما تغيير في الثمانينات، فتحول العمل «الثوري» إلى فعل «المجهول» ليوجّه رسائل مضمرة، فيحتمي المحرّض أو الفاعل من التداعيات وراء ستار الشك، وأحياناً وراء «الأهالي». هذا ما ابتدعته منظومة الممانعة، ما بين حافظ الأسد والخميني، فصارت العمليات العنيفة والخطف من دون فاعل معروف، غير مجرد أسماء وعناوين عابرة، وأحياناً معبّرة، كمنظمة «المستضعفين في الأرض» أو «الحركة الثورية الشعبية». ما حدث هو أنّ العمل الثوري تحول مع منظومة الممانعة إلى أداة مساومة وحوار أخذ ورد مع القوى الكبرى. فكان يُغتال سفير أو تفجر سفارة أو المارينز أو الجنود الفرنسيين، أو يختطف مواطن غربي لتتم المساومة على رأسه بالوكالة مع حافظ الأسد، ليقبض الثمن بالسياسة. يعني أنّ العمل الثوري الممانع انتقل من مرحلة التضحية بالذات في سبيل قضية ما، بغض النظر عن صحتها، إلى وسيلة ابتزاز تتخفى وراء المجهول وتضحي بمن تضحي به في سبيل فتح قناة مساومة مع «العدو!» ليس إلا.

علينا أن نعترف أنّ تلك الأساليب نجحت واستدرجت الكثير من القوى الكبرى إلى ساحتها، كما حققت للممانعة منافع كثيرة، وإن مؤقتة، بالطبع على حساب الناس والضحايا الجانبيين. لكن البدعة المستجدة للممانعة هي «الأهالي»! أي شيء يشبه فورة الحشود على مرور سيارة للقوات الدولية في طريق فرعية في الجنوب، تؤدي إلى قتل جندي، لنرسل تحذيراً لمجلس الأمن بحصر عمليات قوات حفظ السلام بما يرضي الممانعة. أو أن نتحجج بالأهالي لمنع استكمال التحقيق في جريمة اغتيال موصوفة بحق مواطن جنوبي معارض للممانعة... لكن البدعة الأخيرة فقد كانت عامل الدليفري الغاضب على البقشيش أو المقهور من جلافة الحارس في الكلام أو رد السلام، ليخطط عن طريق «الغوغل» لعملية إرهابية مدروسة بدقة ويهرب مع بندقيته المثنية، ومن ثم يتم القبض عليه في الضاحية. أي أن مواطناً من الأهالي يوجه رسالة شخصية، في ذكرى تفجير السفارة الأميركية في بيروت، لتصبح وسيلة مبتكرة للممانعة في المساومات من دون تحمل المسؤوليات.


MISS 3