مجيد مطر

الوجه الآخر للأزمة اللبنانية

7 تشرين الأول 2023

02 : 00

مجدداً، وفي اطلالته الأخيرة، قفز أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله على نحوٍ تعسفي عن بعض الحقائق الملاصقة لواقعنا السياسي والدستوري والمؤسساتي. فقد اعتاد أن يحمّل الدولة اللبنانية المسؤولية في مطلق الأحوال، مازجاً بين الحكومة أو السلطة وبين الدولة ككيان عام يشمل المجتمع السياسي برمته، أي الحكّام والمحكومين على حدٍّ سواء. فلبنان دولة مكتملة العناصر، أي لها أرض بمساحة جغرافية معروفة، وشعب يسكنها ويعيش فيها، وحكومة تعبّر عن سيادتها في الداخل والخارج. الدولة بهذا المعنى مفهوم فوق كل مساومة أو تفاوض، باعتبارها من المسلّمات كوطن نهائي لجميع أبنائه.

وفي معرض حديثه عن النقاط الحدودية المتنازع عليها والتي يحتلها الإسرائيلي، قال إنّ هذا الموضوع هو من مسؤولية الدولة اللبنانية التي تقبل الوساطات، اذاً هي تفاوض فهذا شأنها... ولسنا معنيين (يقصد كـ»حزب») أن نقبل هذه الوساطة أو نرفضها، ويضيف، نحن نُعتبر خارج الموضوع.

هذه الجملة التي تحمل موقفاً سياسياً مقصوداً بدلالاته المعتادة، هي أخطر ما في حديثه، بحيث يدفعنا للاستغراب والتساؤل في آنٍ واحد: هل يعقل أنّ حزباً سياسياً بمستوى «حزب الله»، يشكل الركن المكين في هذه الحكومة، التي لولاه ما كانت لتستمر، قبل الشغور الرئاسي وبعده، أن يعتبر نفسه غير معني؟ وكيف لا يكون معنياً، والحكومة التي هو فيها مسؤولة بحكم الدستور عن المفاوضة أو الدخول في الوساطات باسم الدولة اللبنانية وغيرها من المسائل؟

من نافل القول، لا يوجد شيء اسمه الدولة اللبنانية على نحو مجرد، الدولة شخصية معنوية تدار من قبل مؤسسات تحكم من خلال الشرعية المنبثقة من الدستور والأعراف. الدولة بحسب خبراء السياسة والدستور تعبّر عن نفسها من خلال سمو القوانين ووجود حكومة عقلانية وشرعية. والدستور اللبناني يعطي الحكومة صلاحيات وضع السياسات العامة وتنفيذها في جميع المجالات في ظل مراقبة البرلمان.

تشكّل هذه الحقيقة الدستورية سبباً وجيهاً لتحميل المسؤولية للحكومة كاملة، وفي مقدمها «حزب الله» الراعي الرسمي لها. وقسْ على ذلك في مختلف السياسات العامة. إنّ الحكومات لمجرد أخذها الثقة تصبح مسؤولة أمام البرلمان، وامام أحزاب المعارضة، ولا يمكنها أن تنفي مسؤولياتها أو التهرّب من مقاربة شؤون الإدارة والحكم ومصالح الدولة العليا، وذلك من منطلق التسليم بمنطق الأشياء، قبل الحديث عن إلزامات النص. أي هي مسؤولة واقعياً.

إنّ موقع السلطة العقلانية في أي بلد في العالم، ضرورة لبناء علاقة سليمة بين المجتمع والدولة، فمن خلال تكوين السلطة، وهو أهم معطى في قوننة العمل السياسي بمختلف صوره، الحزبي وغير الحزبي، ما يساهم في أن تحقق السياسة بمعناها النبيل أهدافها، علاوة على استيعاب متطلبات الشعب وحقوقه في العيش الكريم واللائق.

لقد نشأ في لبنان وعلى مدى السنوات السابقة، المنطق الذي يحمّل الدولة المسؤولية، ويخلط بينها وبين المؤسسات التي تعبّر عنها، في كنف ثقافة تمجّد السلطة المنبثقة من الفكر الطائفي، وتحط من مقام الدولة، وتعزز من حضور «المجتمع الأهلي» الذي يُقاد من قبل شخصيات تسخّر مقدرات المجتمع، لتكريس سلطاتٍ فوق المحاسبة والمساءلة.

وهذا الواقع يتجاوز مقولة «النخب الحاكمة» باعتباره مصطلحاً يحاكم الواقع من خلال الأداء السياسي والإداري، فهناك الكثير من هذه النخب تفشل في التعبير عن مصالح شعوبها، إنما من دون أن تقوم بعملية الخلط الاعتباطي لمفهومي الدولة والسلطة، لتتم محاسبتهم عبر الوسائل الديمقراطية، وأحيانا غير الديمقراطية، فتنفي عنها هالة القداسة والبقاء في الحكم لوقت طويل كثابت لا يتغيّر ولا يتبدل. إزاء هذا الواقع يخطئ الكثيرون في تحميل النظام السياسي اللبناني وزر الممارسات الخاطئة التي لا تمتّ لدستورنا بصلة والذي حفظ التنوع ضمن مبدأ المناصفة، من دون الحديث عن تعطيل عمل المؤسسات.

قصارى القول إنّ التعمّد في عدم التفريق بين الدولة والسلطة، هو من قبيل الابتزاز السياسي، كنهج مستمر في الفكر والممارسة، المقصود منه تصفية الحساب بمفعول رجعي مع اتفاق الطائف، وهذا وجه آخر من وجوه الأزمة اللبنانية.


MISS 3