ميشال زيدان

لماذا ما زال الفرنسيون يهتمون بشخصية رومان غاري ورواياته؟

18 أيار 2020

02 : 00

أثبتت نتائج اختيار أفضل خمسين مؤلفاً من بداية القرن العشرين حتى الآن أن رومان غاري الذي حازت روايته "وعود الفجر" على المركز الثلاثين لا يزال مثار اهتمام الفرنسيين من حيث قراءة أعماله الروائية وكذلك الاطلاع على شخصيته المحيرة.

كيف لا يلفت نظر المحيط الأدبي الفرنسي والعالمي الروائي الوحيد الذي حصل من بين كل الكتّاب، على جائزة غونكور مرتين، قبل أن تحوز رواية ثالثة له على المرتبة الثلاثين ضمن مسابقة أفضل 50 كتاباً. وإذا كان غريباً أن يبلغ هذه المراتب روائي من النصف الثاني للقرن الماضي الذي حفِل بروائيين كبار ومبدعين أمثال موريس بلانشو وميشال تورنبيه ومارغيت دوما وناتالي ساروت وغيرهم فليس غريباً أن تثير شخصيه وسيرة حياته الفضول بل الجدال الذي ما زال مستمراً بسبب حرصه على التّستر أو التمويه، فلم يكن أحد يعرف أن أسمه الحقيقي هو "رومان كاسيو" وأنه يهودي الأصل وأنه حصل على ثلاث جنسيات اذ ولد في فيلينوس عاصمة أستونيا التي كانت تابعة لروسيا فاتخذ الجنسية الروسية قبل أن يتخّذ الجنسية البولونية بعدما انتقلت المدينة الى السيطرة البولونية. وكانت حياته حياة تشرد إذ ليس له سوى أم لا تعيش إلاّ من أجله وهي التي حملت ابنها الى فرنسا، واستقرت فيها معلنةً أنها الوطن النهائي لهما وأن ابنها سيحتل مرتبة عالية في الدولة، وخاصةً في المجال السياسي والدبلوماسي.

هذه المعلومات أكدّتها سيرته الذاتية، "وعود الفجر" أما مسألة توقيع كتبه بأسماء مستعارة فقد طُرحت عند فوزه بجائزة غونكور الثانية باسم إميل آجار المستعار وبعد إعلانه في ما بعد، أن آجار هو نفسه رومان غاري وذلك بعد أن تعقّب بعض الصحافيين تفاصيل حياته وبحثوا في المستندات، لقد شكّل أيضاً ذلك فضيحةً كون جائزة غونكور – بحسب ما هو معروف – لا تعطى للكاتب نفسه مرّتين. من جهة أخرى اكتُشف أن أباه هو يهوديٌ أيضاً بل كان ناشطاً في الجالية اليهودية في فيلينوس وأنه لم يختفِ تماماً ولم يمت بل ترك زوجته وابنه وأسس عائلة ثانية ثم بقي على علاقة بالوالدة.

قد لا يكون رومان غاري تعمّد إخفاء هويته الحقيقية بغية الغش واحراز جائزتين لكن الأرجح أن السبب كونه فرنسياً من أصول أخرى وليس فرنسياً أصيلاً وخاصةً أنه يهودي في زمن سيطرت عليه النازية واستعانت بحكم المارشال بيتان في فرنسا لاضطهاد اليهود وتصفيتهم.





رواية "وعود الفجر" وأسلوبها الفريد


أما الرواية التي اعتبرت بمثابة سيرة غاري الذاتية أي "وعود الفجر" والتي شكلت أحد أحداث هذه المسابقة التي جرت في العام الماضي، فهي تستوقف الأدباء والنّقاد وتستوقفنا نحن أيضاً وهي لا تتضمن تفاصيل عن حياته بقدر ما تتطرق لحالات إنسانية ولأحداث تاريخية تتخطى حياة الإبن اليتيم وأمه. فأسلوب غاري يهدف إلى إشراك القارئ في ما كان يشعر به بطل القصّة. هكذا توصّل غاري إلى شد اهتمام القرّاء بشخصية غريبة سيطرت على غاري الطفل وهي شخصية الأم.

شخصية الأم تأخذ شكلاً مميزاً بل تشكل حالة نادرة لكن غاري حاول أن يجعل من سيئاتها ومن تسلّطها على أفكار ابنه وحياته ميزةً جديرةً بالتقدير والاحترام. كما أنه من الغريب ألاّ يتحدث غاري عن أي تصادم بين الإبن المراهق الصاعد وأنه خصوصاً عندما كان يميل إلى الفن بدلاً من السياسة والحياة العسكرية، كما أرادت هي. فقد حاول أن يكون رسّاماً وفشل ثمّ أصبح يدوّن مذكرّاته ويكتب، روايات بالسّر، تظهر في مجلّات أدبية بأسماء مستعارة حتى قبلت الأم بهذه الموهبة طالما أنها قد توصله ربّما إلى الشهرة.

إذا اخذنا بالاعتبار بنية الرواية، نجد أنها تختلف عن الرواية الذاتية بالمعنى التقليدي وكذلك عن الرواية التقليدية التي تفترض حبكةً وتسلسلاً زمنياً. فقد قسّم غاري سيرته إلى فصول وكان ترتيب الفصول حسب سِنّهِ طبعاً: من الطفولة وخصوصاً المراهقة إلى النضوج لكنّها ليست عرضاً لأحداث معيّنة بل وصفاً وتحليلاً للحالة الخاصّة وللمحيط الذي كان يعيش فيه في كل مرحلة من مراحل حياته.

ففي فترة المراهقة – أول اكتشافه للجنس الآخر– يروي لنا غاري بأسلوب واقعي وبتحليل نفسي مرهف تعلّق المراهق المبكر بفتاة في العاشرة تجمع الصبية حولها ليتنافسوا على خطب ودّها. إذا به يتفوق على منافسيه الآخرين ويثبت جرأته عندما تمشىّ على حافة السطح دون أن يقع. في الفترة نفسها حيث سيطر محور العلاقة مع النساء يتطرق غاري لعلاقته مع الخادمة وهي لم تدم طويلاً.

الفصول الأخيرة تتعلّق بالحرب العالمية، عندما اتخذ غاري الشاب موقفاً شجاعاً بالانضمام إلى المقاومة وتلك مرحلة هامّة من تاريخ أوروبا عامةً وفرنسا خصوصاً فقد جعل الروائي علاقته بالمقاومة شاهداً على بطولة بعض الناس البسطاء المغمورين الذين تستحق بطولاتهم أن تروى. وهنا يكمن البعد الإنساني العميق الذي توصل إليه كأديب في هذه الرواية كما كامو في رواية "الطاعون" التي كان فيها الوباء رمزاً للحرب العالمية الثانية والنازية التي سيطرت على أوروبا. والتي شدّد فيها على ضرورة مقاومة الوباء بشجاعة.


MISS 3