وليد شقير

جيزيل تترك العجز اللبناني بحاله

17 تشرين الأول 2023

02 : 05

شاءت الصدف أن تغيب جيزيل خوري مع تمادي المجزرة ضد فلسطينيي غزة، هي التي انخرطت إعلامياً وسياسياً في تلك المنظومة الفكرية الواسعة الأفق دفاعاً عن القضية. كأنّ القدر شاء لرفيقة سمير قصير الفلسطيني الهوى، مثل كثر من المناضلين من ذاك الجيل، ألا تشهد على محاولة جديدة لتصفية القضية بالحديد والنار والقتل والإجرام. هي تعرّفت إلى سمير كما روت مرة، أثناء التقائهما صدفة، بالعلم الفلسطيني محمود درويش، حيث شاء القدر أيضاً أن يتحابا ويُغرم الواحد بالآخر بعدها.

بعض الأعلام، والأيقونات الثقافية والإعلامية والسياسية ذوي الإحساس العالي والقدرة على الاحتمال والصبر في الوقت نفسه، مثل جيزيل خوري، يصادف رحيلهم مع أحداث قد يعجزون عن التأثير بها أو اجتراح وسائل قلب مسارها المناقض لقناعاتهم، رغم صلابتهم وقوة إرادتهم وإنسانيتهم العالية، الواسعة الأفق والابتكار. هي رحلت فيما فلسطين ولبنان ومصير المنطقة أمام المجهول القاتل. هؤلاء يتركون أصدقاءهم ومحبيهم الكثر أمام حيرة من أمرهم.

ماذا عساها كانت تقول وهي تودع هؤلاء، إزاء انسداد الأفق فلسطينياً ولبنانياً؟ وهي تترك بيروت ليبكي من بقي، عليها وعلى حاله، مثلما بكت هي لأنها اضطرت لمغادرتها؟

هي لن تكون شاهدة مرة أخرى على قتل آلة الحرب الإسرائيلية زملاء لها في غزة لترفع الصوت مع مؤسسة سمير قصير ضد استهداف الصحافيين، ولا على إنهاء المدافع الإسرائيلية حياة عصام عبد الله وجرح زميليه في «رويترز» ووكالة الصحافة الفرنسية، ولا على تعنيف مناصري «حزب الله» في الجنوب لمراسلين من مؤسسات لبنانية وعربية.

غادرت ولبنان أمام مخاطر لا رد لها، عظُمت أم بقيت على وتيرتها الحالية، لأنّ قرار لجمها أو خفضها ليس في يد من توهموا ويحاولون أن يوهموا الناس أنهم أصحاب القرار. ففي ظل فراغ السلطة الكامل من الرئاسة إلى الحكومة وشلل البرلمان، وسائر المؤسات، يبدو أنّ الحرب الدائرة في الجنوب هي بالحد الأدنى وحتى إشعار آخر، حرب بالواسطة على أرضه، في انتظار قرار إسرائيلي، أو إشارة إيرانية، تطلق صفارة إمكان توسيع حرب غزة نحو الجبهة اللبنانية، من دون أي حساب لمفاعيلها على سائر اللبنانيين. بعدما بات لبنان ساحة مفتوحة للصراع الإقليمي والدولي أكثر من أي وقت، لم يعد من مكان للصوت أو للدور اللبناني. في الانتظار تسيطر المناوشات المضبوطة على حياة الجنوبيين واللبنانيين، فيستسلمون لها، ويهاجر من يهاجر وينزح من ينزح ويزداد الفقير فقراً.

وفي السياق، يُساق لبنان الذي أرادته جيزيل مساحة حرية نمت فيها مواهبها واحترافها وما سمته مكاناً للنقاش، إلى موقع يفوق أضرار حالة انعدام الوزن، ليتحول إلى كيان مفكك غير قادر على لملمة أجزائه المتناثرة.

فالواقع السياسي الداخلي فضلاً عن أنّه بات متروكاً للصدف، ومعطوفاً على مستقبل اقتصادي معرض لمزيد من التدهور والانحلال، ذاهب حسب مسار الأحداث نحو مزيد من الجمود. فرغم الدعوات إلى تحصين البلد من ارتدادات «طوفان القدس» إلى انتخاب رئيس للجمهورية لتأمين الحد الأدنى من انتظام أجهزته الدستورية لعله يتمكن من تشكيل مرجعية يمكنها مخاطبة الخارج، سواء إقليمياً أو دولياً، لا مجال لأي تجاوب أو توافق. إذ لا صوت يعلو على صوت معركة الحروب بالواسطة التي يغذيها تغييب القرار اللبناني. فهذه الحرب توجب بحسب البعض، إبقاء البلد في حالة الفراغ الرئاسي والدستوري والسياسي أكثر من السابق، كي تتسنى لأبطالها وأطرافها الكثر البعيدين والأقربين، حرية الحركة بعيداً من أي ضابط يفترضه التعاقد بين أطراف الداخل على مبادئ وأهداف ولو مرحلية. القاعدة هي أنّ «اللعبة أكبر منكم فلا تقتربوا منها أو تحاولوا تعديل مسارها، فابتعدوا».


MISS 3