عيسى مخلوف

إيتل عدنان: اللون الذي لا يخبو

21 تشرين الأول 2023

02 : 01

تحضر أعمال الفنانة التشكيليّة والشاعرة إيتل عدنان في كبريات المتاحف والغاليريات العالميّة، ومنها في غاليري لُولُون الباريسيّة التي افتتحت مؤخّراً معرضاً جديداً لمحفورات أنجزتها الفنّانة بين العام 2014 والعام 2021، وتروي فيها حكايتها مع عناصر الطبيعة: الشجرة، الغَيم، البحر والجبل. جبل تامالباييس في شمال سان فرنسيسكو الذي تعلّقت به وأمسى بوصلتها إلى مشاعرها العميقة، وتعاملت معه كأنه كائن حيّ. تنظر إليه صبحاً ومساء وتراقب تحوّلات الضوء واللون فوق قممه، فترسمها مراراً وتكراراً، مثلما رسم الفنان الفرنسي بول سيزان جبل سانت فيكتوار القريب من مدينة إكس أُون بْرُوفانس، أو الفنّان الياباني هوكوساي الذي عاش بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ورسم جبل فُوجي عشرات المرّات.

لقد تآخت إيتل عدنان مع ذلك الجبل القريب من مقرّ إقامتها في أميركا، واعتبرت أنّه يعكس وجهها الثابت في الزمن. هناك أيضاً درَّست الفلسفة وأنجزت قسماً كبيراً من نتاجها الأدبي والفنّي، قبل أن تأتي إلى باريس وتمضي سنواتها الأخيرة فيها. ولئن كانت أعمالها الفنية آتية من أماكن السكينة ومُضاءة بشمس الفرح ومتصالحة مع العالم، فإنّ جزءاً مهمّاً من مؤلّفاتها الأدبية، شعراً ونثراً، كان شديد الصلة بالواقع وأشبه بالصرخة. في روايتها «ستّ ماري روز»، ترصد الحرب الأهلية في لبنان، وتعبّر عن رفضها لها. هذه الحرب التي بسببها اضطرّت إلى مغادرة بيروت وبحرها. في بعض قصائدها تتحدّث أيضاً عن المأساة الفلسطينية، وقد شبّهت الفلسطينيين بالهنود الحمر وما لحق بهم من ظلم وإبادة، كما كتبت عن تراجيديا الواقع العربي. يطالعنا هذا الموضوع في عدد من إصداراتها ومنها كتابان: «يبوس وقصائد أخرى» و»سفر الرؤيا العربي».

هكذا عُرفَت إيتل بالتزامها قضايا الشعوب، من الجزائريين الذين خاضوا حرب التحرير، إلى حرب فيتنام وقضايا أُخرى. أما تعبيرها عن النزعة الإنسانية فلم يكن على حساب البُعد الجمالي، ولم تسقط يوماً في الخطاب السياسي المباشر وشعاراته. وطالما كانت إيتل تعود في حديثها إلى ما يجري في لبنان، وتتساءل أمامنا: «تُرى، متى سيرتاح هذا البلد؟». إنه البلد الذي أحبَّته وظلَّ يرافقها كظلّها أينما ذهبت. قد نجد الجواب عن سؤالها في إحدى قصائدها: «أعيادُنا متلألئة/ وإن كانت مُسَربَلَة بالسّواد./ تَرَكْنا كالآلهةِ أرضاً أكثر ثقلاً من عناقيد عنَب في عزّ الصّيف/ كأنّنا نُطبِقُ أجفانَ الموتى./ قاتلة هي جروح الذاكرة».

لقد تماهت الفنانة والشاعرة، من خلال الفنّ التشكيلي، مع الطبيعة، بينما كانت، من خلال الشعر والنثر، تَشهد وتبوح وتحكي الجرح الذي طبعَ تاريخ البشر على هذه الأرض. في الفترة الأخيرة من حياتها، وبقدر ما يكبر شعورها باقترابها من النهاية، لم يعد هاجسها رصدَ الواقع والحروب المندلعة هنا وهنالك، بل أخذ ينحو إلى التأمّل الفلسفي، ويقترب أكثر فأكثر من النهايات، ولذلك ضمّنته وصيّتها الشعريّة، وكذلك مشاعرها حيال الحياة والموت والوقت العابر. وهذا ما نقرأه في كتبها الأخيرة ومنها «ليل» و»فصول» و»بحر وضباب». من مناخ هذه الدواوين: «حدث ذلك خلال سنوات لا يتذكّرها أحد/. لم أحاول أن أفعل شيئًا آخر/. غيابي، غيابي أنا نفسي،/ يَتبعُ غيمةً وجدَتني جالسةً/ في حديقة./ تَصوغُ الأنفاقُ ثانيةً مساراتِ العروق./ ثمّة دودةٌ في القلب تغتذي من ضعفها، وفي رياض الطّير الذي قلّما يعنيه التاريخ، وإن حطَّمَ حيواتنا./ يومًا ما، لن تُشرقَ الشمس في موعدها،/ ولن يكونَ النهار./ في غياب النهار، يغيب الليل أيضاً/. القلوب هي التي تتوقّف. لا الأمواج ولا الأنهار».

في العام 2015، شاركت إيتل عدنان في احتفاليّة «إلك يا بعلبك» التي أخرجها المخرج المسرحي نبيل الأظن، في ذكرى تأسيس مهرجانات بعلبك الدوليّة. انطلقت قصيدتها الطويلة من الماضي الأسطوري إلى الواقع الذي عاشه لبنان والشرق الأوسط، حيث الحروب توزَّع على الناس كخبز يوميّ.

إيتل عدنان التي رحلت عن 96 عاماً، لم تفقد يوماً صلتها بالطفولة، الطفولة بما هي دهشة وتساؤل وانبهار، وذلك البريق الإنساني النادر الذي يجعلها على تماسّ مع المعذّبين والمقهورين أينما كانوا. لقد ظلّت تكتب وترسم كأنّها تسابق الموت، فامتلأ محترفها بأعمال غير مكتملة، متناثرة على الأرض وفي الزوايا، كأنها صورة لأنفاسها الأخيرة ولتوقها إلى المضيّ في رحلة الفنّ حتى الرمق الأخير.


MISS 3