د. نبيل خليفة

جيزال خوري-الرمز: من فضاء الإعلام إلى تربة العقيبة

23 تشرين الأول 2023

02 : 00

توفيّت الإعلامية المعروفة والمحبوبة جيزال خوري. وكان للنبأ صدى مؤلم في قلوب الملايين من اللبنانيين والعرب نظراً لما تمثّله هذه السيّدة من قيم كبرى تتقاطع فيها القيّم الإنسانية والأخلاقيّة والفنيّة والاجتماعيّة لتشكّل النموذج الفذّ للمرأة-الرمز: في الايمان والعطاء والعمل. الإيمان بالله وبالحياة، والعطاء خاصة للمحتاجين والعمل لتجديد الحياة وتجويدها. ولم تكن جيزال خوري قادرة على القيام بكل ذلك إلاّ لأنها تملك ميّزات ومزايا كثيرة نذكر منها:

الأولى: الطموح إلى الأفضل في كل مجال وحقل وفن ومهمّة. والطموح بذاته هو التعبير الصحيح عن إنسانية الإنسان. إنّه نزعة تقوم على مبدأ التخطّي. تخطي ما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون. ومن ضمن هذه المعادلة ترتسم حركة التاريخ: تاريخ الشعوب والحضارات، وتاريخ المبدعين والمبدعات أيضاً وفي عدادهم جيزال خوري.

الثانية: الذكاء كقدرة إنسانية ومعيار لفهم الواقع والإحاطة به وارتسام طريق المستقبل في ما يطلق عليه فردريتش راتزل عنوان «التوقّع» وهو المنحى الذي طالما مالت إليه جيزال في العديد من مقارباتها الحوارية الفكرية.

الثالثة: الجمال وهو قاعدة اجتذاب للمشاهد والمستمع: الجمال هو معطى نفسي-أخلاقيّ يؤثر في الذات الإنسانيّة بفعل سيطرته على المشاعر والحواس تحت تأثير الانسجام الرائع في الشكل واللون بما يولّد اللوحة الجماليّة: الطبيعيّة أو الفنيّة. إنّ نظرة واحدة إلى وجه جيزال، وخاصة إلى عينيها، يعطي الجواب الشافي عن لوحة الجمال.

الرابعة: الغنى المتواضع وفيه أنّ جيزال عبّرت عن غنى ثقافتها الفنيّة بمقاربتها لعشرات الموضوعات وفي نطاق عشرات المجالات وعلى أثير مجموعة محطات كانت تنتقل فيها ومعها إلى مجالات أرحب وأصعب لكي تؤدي مهمة اعلامية أكثر دقّة وأهمية وفعاليّة. من هنا يصحّ القول أن جيزال خوري سلكت في مسارها الاعلامي خطاً واضحاً لم تحد يوماً عنه: إنّه الصعود الدائم إلى فوق: إلى قلب العالم، إلى حقيقة الوجود. ولم يكن هذا النهج سوى انعكاس لنفسيتها ومشاعرها ولنظرتها إلى الانسان والكون والمصير.

الخامسة: النضال كتعبير عن شعور الجرأة التي تملأ نفس جيزال. إنّه النضال من أجل الحقيقة، من أجل الانسان، من أجل الفكر ومن أجل الوطن. بهذا المعنى، بل ضمن هذا المعنى تفهم علاقة جيزال بكل ما له علاقة بسمير قصير: إنساناً وزوجاً ومفكراً وشهيداً... وصاحب إرثٍ فكريّ خالد! إنّه نضال يعكس بالضبط نفسيّة جيزال التي تجمع الميزتين: الجرأة والتواضع في آن ما يجعلها «عاشقة الحريّة»!

السادسة: العلاقة بالأرض، أرض لبنان عامة وأرض بيروت خاصة، وأرض العقيبة مسقط رأسها أكثر تخصيصاً. إنّها البلدة التي شاءت جيزال ان تقيم فيها خلال اليومين الأخيرين من حياتها، وبأن تدفن في ثراها المباركة. وهي لا تعتبر ذلك هبوطاً من فضاء الاعلام إلى محدودية مدفن بيت القزي في العقيبة. إنه بالنسبة لها ارتقاء لأنه انخراط في ما هو ثابت وباق ومستمر: أي تربة الوطن وأرض الوطن الذي هو رمز الكيان والذات والوجود إذ فيه «عودة النهاية إلى البداية» كما يقول أدونيس! ولأن ما يجمعنا في رأي ميشال شيحا هو: الأرض والمصير!

... وهكذا تدفن جيزال خوري في مدافن عائلة قزي في العقيبة قرب مدفن قريبها المفكّر سجعان قزي. لقد كان سجعان ممثلاً لرمز القيادة السيادية اللبنانية مع بشير الجميّل. وهذه هي جيزال قزي خوري ممثلة لرمز الريادة الفكرية النهضوية مع سمير قصير. لقد كانت جيزال حضوراً دائماً ومستمراً في حياتها المهنية وحياتنا الوطنية وغيابها اليوم نكسة مؤلمة في تاريخ الاعلام الراقي. إن تربة العقيبة تستقبل رفاة المبدعين المميّزين، ألا بوركت وردة الاعلام زميلتنا وأختنا جيزال خوري. لأهلها كل العزاء والدعاء، ولها عناية السماء. آمين!


MISS 3