يوسف مرتضى

"طوفان الأقصى" يُحاكي "مطار الثورة": حقوق الشعب الفلسطيني تستحيل تصفيتها

27 تشرين الأول 2023

02 : 00

لم تكن عملية طوفان الأقصى التاريخية مفصولة عن النضال المديد المتعدد الأوجه والأشكال للشعب العربي الفلسطيني بمختلف فصائله. وبغض النظر عن الطبيعة الأيديولوجية لحركة «حماس» وجناحها العسكري «كتائب القسّام» التي أتعارض معها، غير أنّه لا بد من الإقرار، بأنّ 7 تشرين الأول 2023 تاريخ عملية طوفان الأقصى سيكون بعده حتماً غير ما كان قبله.

والحديث هنا لا يدور حول ما أبرزته العملية من تفوّق أمني ومعلوماتي وتقني وعسكري على جيش العدو الصهيوني، وكشف زيف ما عُرّف به على مدى عقود بأنّه لا يقهر، إنّما التركيز على البعد السياسي للعملية التي أعادت الاعتبار لقضية العرب المركزية فلسطين. وبغض النظر عما سيفضي إليه العدوان الصهيوني الغاشم على غزة، الذي يلقى تغطية ودعماً غير مسبوقين وبشكل سافر من الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، فإنّ عملية طوفان الأقصى قد أعادت وضع القضية الفلسطينية وبقوة على الطاولة، بعدما ساد الاعتقاد عند كثيرين أنّها أصبحت نسياً منسيّاً خاصةً مع توسّع موجة التطبيع العربي- الإسرائيلي.

لقد حدد العدو الإسرائيلي ومعه كل الغرب أنّ هدف الحرب على غزة هو الإجهاز على حركة «حماس» جسدياً. وفات هؤلاء أنّ «الحركة» وبغض النظر عن أيديولوجيتها التي لا أتفق معها كما أسلفت، أنّ عنوان مواجهتها هو تحرير الأقصى واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني، هذا العنوان الذي لا يمكن تصفيته مطلقاً، وأنّه كلما تغلّب الصهيوني ومعه الغربي والرجعي العربي على مكوّن من مكوناته سوف تفرّخ بدائل ومكونات آخرى أكثر تصلباً وتشدداً في حرصها على استعادة الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني مهما كانت التضحيات ومهما طال الزمن. إنه شعب الجبّارين، وإنها فلسطين الولّادة.

ومما تظهره الأحداث، فإنّ المواجهة مع العدو الصهيوني، هي مواجهة مع من صاغوا بياناً مشتركاً وتبنوا السردية الإسرائيلية عن عملية طوفان الأقصى، وهبّوا لنجدة إسرائيل الثكلى! ليقدموا لها العون المعنوي والمادي والأمني والعسكري: أميركا، برطانيا، فرنسا، المانيا، إيطاليا.

وقد يسأل سائل لماذا هذا الاحتضان الغربي المبالغ به للصهاينة؟ أعتقد أنّ الإجابة على هذا السؤال تجد جذورها في السردية التاريخية التالية التي تبيّن هيمنة الصهيونية على القرار الغربي منذ القدم.

مؤتمر فرساي

في العودة إلى مؤتمر فرساي عام 1919 على أثر انتهاء الحرب العالمية الأولى التي تحدد فيها مصير الإمبراطورية العثمانية والشرق الأوسط فضلاً عن تحديد مصير ألمانيا وإيطاليا المهزومتين، نلحظ أنّ الصهاينة كانوا يسيطرون بشكل واضح على قرارات المؤتمر ولجان الصياغة فيه. على سبيل المثال، كان مستشار الرئيس الأميركي ويلسون في باريس هو الحاخام ستيڤن وايز ومعه الصهيوني برنارد باروخ. أمّا رئيس الوزراء البريطاني فكان مستشاره الصهيوني من أصول عراقية فيل ساسون. وكان مستشار الرئيس الفرنسي جورج كليمنصو وزير داخليته جورج مندل الذي كان يحمل قبل ذلك إسم لويس روتشلد. وكان المستشاران ذاتهما، باروخ ووايز، حاضرين أيضاً في المؤتمر بصفتهما عضوين في الوفد الصهيوني.

وقبل ذلك في العام 1913 كان المستشاران قد شاركا أيضاً في تأسيس البنك الفدرالي الأميركي أي «البنك المركزي الأميركي». وربطاً بتلك الجذور نلحظ أنّ الرئيس الأميركي جو بايدن يتباهى اليوم بأنه صهيوني وإن كان ليس يهودياً، وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى أنّ جهاز العمل الخارجي مع بايدن جلّه من اليهود، بلينكن وزير الخارجية، سوليڤان رئيس جهاز الأمن القومي، روبرت مالي مسؤول الملف الإيراني.... ولا تغيب عنا هوية ودور الرئيس الفرنسي ماكرون.

حركة دينية سياسية

إننا إذاً أمام حركة دينية سياسية، كانت مؤثرة في القرار السياسي الدولي منذ أواسط القرن التاسع عشر على الأقل، وشاركت في رسم التحولات السياسية العالمية في القرنين التاسع عشر والعشرين. وتأثيرها السياسي الدولي يظهر بوضوح منذ بدايات القرن الحادي والعشرين. من هذه الخلفية تتصرف إسرائيل وكأنها واحدة من الدول الكبرى. وقد نجحت في السيطرة على جزءٍ مؤثر من الصحافة في معظم الدول الغربية، وهذا ما ظهر في ترويج ما أرادته من تشويهات لعملية طوفان الأقصى، هذا فضلاً عن قدرات إسرائيل والصهيونية العالمية الاقتصادية والسياسية وتأثيرها في القرارات الدولية.

هذه هي اذاً هوية المؤسسة السياسية ومقدراتها الاقتصادية والإعلامية التي استهدفتها الثورة الفلسطينية يوم انطلقت في العام 1965. وبعدما كانت الصهيونية تفترض أن الفلسطينيين قد أخلوا الساحة نهائياً، فوجئت بانطلاق الثورة فراحت توجّه خبراءها للبحث في كيفية التصدي لهذه الظاهرة الجديدة.

وبالرغم من أنّ ظاهرة الثورة الفلسطينية لم تحقق الأهداف المرجوة منها، إلا أنها ساهمت في تغيير الكثير من المفاهيم، ليس في منطقة المشرق فقط، إنما أيضاً على الساحتين الفكرية والدولية.

كان لخريجي الجامعات الغربية من الفلسطينيين الذين انخرطوا في قيادة بعض الفصائل الفلسطينية دور كبير في تحديد الفوارق الكبيرة في فكر الثورة الفلسطينية، بين ثورات التحرر الوطني في العالم وخصوصيات مواجهة العدو الصهيوني ذي الامتداد الأممي.

«فتح» و»الجبهة»

وهكذا اجتمع عدد من الشباب الفلسطيني على فكرة التخطيط السياسي والعسكري للثورة، هذه الفكرة التي وجدت طريقها إلى قيادات الحركتين الفلسطينيتين، «فتح» و»الجبهة الشعبية». ومن أوائل الذين اقتنعوا بالآراء الجديدة واعتنقوها بدءاً من آواخر السبعينات من القرن الماضي هو الشهيد الدكتور وديع حداد، والعديد غيره طبعاً.

وتنفيذاً لهذا التوجه، تم إنشاء فريق أول لصياغة بيان سياسي فلسطيني، طابعه العام، أنه يطالب بما لا تقبل به الصهيونية، ولكنه قابل للترويج في الأوساط الغربية، مع إمكانية إقناع الشارع الفلسطيني به. فنتج عن ذلك كتابة كرّاس «الدولة الديمقراطية الفلسطينية»، الذي طبع باللغة الإنكليزية، قبل أن يعاد نشر ترجمته لاحقاً باللغة العربية.

وهكذا كُلّف فريق ثانٍ بمهمة ابتكار طريقة تسمح للثورة بتنفيذ عمليات عسكرية تنقل القضية الفلسطينية من مستوى وخز الإبرة (الذي كانت تقتصر عليه عمليات الثورة) إلى المستوى العسكري الميداني بمعولٍ إعلامي دولي. وكانت بنتيجة ذلك عملية «مطار الثورة» ثم تبعتها غيرها من العمليات «خطف الطائرات»، ولا تزال عملية ليلى خالد حاضرة في الأذهان.

«مطار الثورة»

وامتازت عملية «مطار الثورة»، الذي حوّلت إليه طائرات مدنية من عدد من الدول، بالدقة الشديدة، ولفتت أنظار العالم إلى أنّ الثورة الفلسطينية ليست فقط سلسلة عمليات وخز للإبر، بل هي قادرة على الارتقاء إلى مستوى هذا التهديد للأمن الصهيوني، ومن دون أن يعاب عملها بضحايا بشرية غير محسوبة.

وعلى الصعيد السياسي وفور إنجاز كُرّاس الدولة الديمقراطية ربيع عام 1969، تحرك فريق من «فتح» وعرضه على مدير مكتب الرئيس الفرنسي ميشيل جوبر الذي أصبح وزير خارجية فرنسا عام 1973، فتبنّاه، ثم تعاون مع وزارة الخارجية الفرنسية، وساعد «الحركة» على عرض القضية الفلسطينية على «مجلس السوق الأوروبية المشتركة» كما كانت تسمى آنذاك، وصدر القرار الأول في تاريخ فلسطين منذ عام النكبة الذي تعترف فيه دول السوق بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، (كتاب «صراعات الجيل الخامس» للكاتب إميل خوري).

وهكذا كما «مطار الثورة»، هزّت عملية طوفان الأقصى الأمن الإسرائيلي وكشفت هشاشته وأعادت طرح القضية الفلسطينية على طاولة مجلس الأمن الدولي لتلفت إلى أن مسألة الأمن والسلام في الشرق الأوسط غير ممكنة من دون الإقرار وتثبيت حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة بدولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف أو الذهاب إلى الدولة الديمقراطية التعددية على كامل تراب فلسطين.

(*) كاتب وباحث


MISS 3