عيسى مخلوف

الدورة الدمويّة بين الشرق والغرب

28 تشرين الأول 2023

02 : 00

ثمّة كُتُب تنطلق من موضوع محدَّد وتتحوّل إلى رحلة في الزمان والمكان، وإلى كشف معرفي ينهل من تفاعل الثقافات والتواصل في ما بينها. هذا ما يطالعنا في كتاب «الدورة الدمويّة/ قصّة اكتشاف بين الشرق والغرب» للدكتور فرنسوا بستاني الاختصاصي في طبّ القلب، والمعروف بمنشوراته العلميّة، والحاصل على وسام الفرنكوفونيّة الأكبر الذي تمنحه «الأكاديميّة الفرنسيّة»، وهو أحد الذين هاجروا من لبنان إثر اندلاع الحرب الأهلية.

في كتابه الجديد الصادر عن SAURAMPS MEDICAL ، يربط المؤلّف بين التأريخ لمعرفة الدورة الدمويّة وتاريخ العلوم ككلّ، وفي مقدّمه علم الفلك، كاشفاً عن مسار هذه العلوم وسيرورتها، وكيف أنها وليدة ثقافات وحضارات مختلفة، على امتداد حقبات زمنيّة طويلة امتدّت زهاء 2500 سنة، هي عُمر تطوُّر الفكر العلمي والطبّي. هذا التطوُّر الذي حصل ضمن عوامل اجتماعيّة، سياسيّة وثقافيّة انفتحت فيها آفاق العلوم والاكتشافات حين سادت أجواء الحرّية والانفتاح والتسامح، وتراجعت حين انغلقت على نفسها وشاعت فيها نزعات التعصُّب والتطرّف. إنها رحلة شاسعة حدث خلالها تراكُم نوعيّ انعكست نتائجه في التجارب العلمية والطبية التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم، من اليونان القديمة إلى الغرب، مروراً بالعالم العربي- الإسلامي. وإذا كان العلم الحديث قد تمكّن من رؤية النور، فذلك بفضل المعارف اليونانية التي ترجمها العرب وأضافوا إليها، تعليقاً وشرحاً، ووصلت إلى الغرب في القرون الوسطى.

الحديث عن الدورة الدمويّة هو حديث عن تطوّر التخصُّص في معالجة أمراض القلب، وهو تطوُّر يدين به إنسان هذا العصر للبحث العلمي القائم على المعاينة والاختبار لا على الغيبيّات والحكايات الخرافيّة. هذا هو الموضوع الذي يتناوله فرنسوا بستاتي من زوايا مختلفة، ولا يحصره في المستويين العلمي والطبّي فحسب، بل يذهب أبعد من ذلك ليتحدّث عن كيفيّة انتقال الأفكار، من فترة زمنيّة إلى فترة زمنيّة أخرى، وعمّا قدّمته الحضارات المختلفة في هذا المجال. أي أنّه يدرس هذا الحقل ويفتحه على حقول أخرى تؤكّد ضرورة تضامن الشعوب وأهمية ائتلافها لا اختلافها في تقدّم الإنسانيّة جمعاء، وتحقيق قفزات علميّة قادرة على تغيير حياة الإنسان على الأرض، ولا يستقيم ذلك إن لم يواكب التقدُّمَ العلمي والتكنولوجي تقدّمٌ آخر على مستوى النزعة الإنسانيّة.

من الأسئلة الجوهريّة التي يتطرّق إليها الكتاب، سؤال يلتفت إلى التطوّر العلمي وعلاقته بالأديان التوحيديّة. أما هذه العلاقة فلا تتحدّد دائماً انطلاقاً من نسق واحد محدّد، ذلك أنّ التاريخ بيَّنَ لنا كيف كانت عليه الحال في الحضارة العربيّة - الإسلاميّة، في أوجها وفي ضُمورها، وكذلك موقف الكنيسة الكاثوليكيّة من العلم والتفكير النقدي، وبأيّ قساوة وقفت ضدّ أطروحات كوبرنيكوس وغاليليه، بين القرنين السادس عشر والسابع عشر، وهي أطروحات شكّلت اختراقاً هائلاً في فهم الكون على أسس موضوعيّة علميّة، ودحضت فكرة أنّ الأرض مركز الكون، وأنّ الشمس هي التي تدور حولها، كما غيَّرت الرأي السائد حول موقع الإنسان نفسه من هذا كلّه. ويتكشّف من وراء ذلك إلى أيّ مدى لجمَ التوجُّه اللاعقلاني التوجّهاتِ العلميّة، لفترات زمنيّة طويلة.

يجمع كتاب فرنسوا بستاني أيضاً بين هاجسين أساسيّين: فهم أعراض القلب والأوعية الدموية و»الثورة العلاجيّة»، من جهة، ومن جهة ثانية، التفاعل العلمي بين الشرق والغرب، ما دفعه إلى التساؤل عن سُبُل انتقال المعرفة عبر العصور وظروف تبادُل الأفكار بين ضفّتي المتوسّط. في هذا السياق، نكتشف الدور الذي نهض به عدد كبير من الأطبّاء والعلماء والفلاسفة والسياسيين المتنوّرين. ومن هذا المنطلق يتساءل الكاتب عمّا إذا كانت الأديان تتعارض، بالضرورة، مع العلم، بسبب طبيعة كلّ منهما، أم أنها كانت ضحيّة ظروف تاريخية وسياسية معيّنة؟

يأتي كتاب «الدورة الدمويّة/ قصّة اكتشاف بين الشرق والغرب» لفرنسوا بستاني في وقت تتضاعف فيه النزاعات والحروب، فيما تتهدّد كوكب الأرض مخاطر كثيرة نتيجة الاحتباس الحراري والتلوُّث البيئي والسباق المتزايد نحو التسلّح، وذلك كلّه في غياب التضامن المطلوب بين دول العالم، لا سيّما ما يسمّى الدول العظمى، لمواجهة التحديات المتعاظمة التي لا تحتمل التأجيل. وهي مواجهة مستحيلة إذا تعذّر التوصُّل إلى وفاق بين البشر، وتأسيس عقد اجتماعي جديد من دونه ستبقى البشريّة مهدّدة دائماً بالفناء.





MISS 3