ريشار قيومجيان

اللهمّ إشهد عليهم... اللهمّ بلّغت

28 أيار 2020

02 : 00

‫قرأت مقالة رئيس الحكومة حسان دياب في "الواشنطن بوست" والتي حذر فيها من أزمة غذائية كبيرة قد يشهدها لبنان، ومن أن نصف الاسر اللبنانية قد لا تستطيع شراء الطعام بنهاية العام.‬

‫لذا رأيت من واجبي كمواطن ومن موقعي كوزير سابق للشؤون الاجتماعية وانطلاقاً من انتمائي الى حزب وتكتل نيابي ووزاري، يشكل الشأن المعيشي والاجتماعي لديه أولوية مطلقة، أن أسأل الحكومة عن استعداداتها لمواجهة طوارئ الحالات الإنسانية الضعيفة، وعن خطتها لتأمين شبكة حماية اجتماعية وطنية شاملة، وعن مصير مساعدات الـ400 ألف ليرة التي بدأت بتوزيع بعضها.‬ مع بداية تسلّمها لمهامها ارتكبت الحكومة الحالية‫ خطيئة كبيرة لأنها رأت الخطأ ولم ترعوِ، ولم تستمع الى نصائح كثيرة حول المساعدات النقدية المنوي منحها للعائلات المعدمة والمعوزة.

فجاءت هذه المساعدات:‬

‫1 - استنسابية، عشوائية وغير شاملة إذ تحرم مئات آلاف العائلات من امكانية حصولها على تقديمات، فطالت شرائح محددة لم نعرف لماذا تم انتقاؤها دون غيرها وهي سائقو السيارات العمومية ومصابو الالغام واولياء تلاميذ التعليم الرسمي، إضافة الى حوالى 27 ألف عائلة ضمن برنامج الفقر. ‬

‫2 - غير مستدامة أقلّه على المديين القريب والمتوسط‬.

‫3 - فاقدة التمويل الفعلي في ظل العجز المالي للدولة وعدم توفر الاموال.‬

‫إن عدم اعتماد معايير علمية واضحة يفاقم الاخطاء والمحسوبيات والزبائنية في انتقاء العائلات المستفيدة، وهذا ما ظهر جلياً في التطبيق وفي التخبط الحكومي وتأجيل التنفيذ لاكثر من مرة.‬

‫إن نصف اللبنانين باتوا يعيشون تحت خط الفقر في ظل دولة معدمة ومفلسة. لذا أجدد مطالبتي الحكومة باعتماد المعايير العلمية والمنطقية والآلية المعتمدة والموجودة أصلاً في برنامج "دعم الاسر الاكثر فقراً"، لتحديد العائلات الاكثر عوزاً وفقراً.‬

‫فهذا البرنامج معتمد في الكثير من الدول وما حققه في مصر على سبيل المثال، لمواجهة انعكاسات أزمة تحرير سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار لهو نموذج يحتذى به. وبعكس ما يشي به بعض أصحاب المصالح أو الجهلة داخل الحكومة وخارجها، هو برنامج صالح قائم على تعاون ثلاثي الاطراف بين وزارة الشؤون ورئاسة مجلس الوزراء والبنك الدولي. بدأ العمل بالبرنامج منذ العام 2011، وخلال فترة وجودنا في الوزارة زميلي الوزير بيار أبو عاصي وأنا عملنا على تنقية البرنامج وتيويمه بشكل دائم من خلال تخفيض عدد العائلات المستفيدة الى حوالى 44 ألف عائلة، بحيث يتلاءم العدد مع الموازنة المتوفرة، وبحيث يستفيد فعلاً من يستحق من دون محسوبيات واستنسابية. كما زدنا في الصيف الماضي عدد العائلات المستفيدة من بطاقة الغذاء من 10 آلاف الى 15 ألف عائلة. هذا بالاضافة الى برنامج "التخرج" من الفقر الذي يمكّن مئات الأشخاص من تعلم مهن وحرف عديدة، انطلاقاً من مبدأ بدل إعطاء الشخص سمكة، علّمه الصيد.

كل المطلوب اليوم توسيع البرنامج وتطويره وتيويمه update and expand ومواكبته عن قرب وتعزيزه بالعناصر البشرية اللازمة، لتأمين المساعدات الغذائية والصحية والتربوية للعائلات الأكثر عوزاً والتي قد يصل عددها الى اكثر من 400 ألف عائلة.‬ ‫إنني أذكّر الحكومة بمحادثات ومفاوضات سابقة أجريناها منذ الصيف الماضي مع برنامج الغذاء العالميWFP والبنك الدولي والدول المانحة، لمساعدتنا في تأمين نفقات هكذا برنامج وطني شامل للحماية الاجتماعية، عبر هبات أو قروض بمئات الملايين من الدولارات بفوائد رمزية.‬ بالإضافة إلى مشاكل الفقر والبطالة، على الحكومة ايجاد الحلول والتمويل لمئات المؤسسات التي تعنى بذوي الاحتياجات الخاصة والمعوقين والمسنين والأيتام والمدمنين على المخدرات، والنساء المعنفات والمساجين الأحداث والأطفال المشردين وكافة فئات المجتمع الضعيفة والمهمشة، والتي تحصى بمئات الآلاف. إن هذه المؤسسات تعاني من ضائقة مالية شديدة وعلى شفير الإقفال، فما تقدمه لها وزارة الشؤون بات ضئيلاً جداً نظراً لارتفاع سعر صرف الدولار من جهة وسعر الكلفة المتدني أصلاً والذي تتلقى الأموال على أساسه. إن هذه الجمعيات ليست وهمية وليست لنساء سياسيين، بل هي صاحبة رسالة إنسانية وهي مؤسسات رعاية اجتماعية وصحية، تقوم بهذه الخدمات مقام الدولة منذ عشرات السنين حتى أن وجود بعضها سابق لتأسيس دولة لبنان الكبير.

لا تنتظروا الجوع كي يأتي الينا، ولا تتركوا الأزمات تستفحل فنقف أمامها عاجزين صاغرين. فالإمكانات والمساعدات المتوفرة اليوم قد تنعدم غداً.

إن الأوضاع الاقتصادية في الدول الصديقة والشقيقة القادرة على مساعدتنا قد تتغير لغير مصلحتنا في المستقبل غير البعيد. وهي أصلاً مهتمة حالياً بتأمين مخزونها الغذائي وبمعالجة المشاكل الاجتماعية الخاصة بها، من بطالة وإقفال معامل وتعويضات ودعم للعمال والموظفين وللمؤسسات الصغيرة والضخمة على حد سواء. لذا تحركوا قبل فوات الأوان وأعدوا خطتكم وعدّتكم واستمعوا الى تحذيرات المنظمات الدولية وأصحاب الخبرات، الذين استشرفوا أزماتنا المالية والاقتصادية والاجتماعية ودأبوا على نصحنا بالحلول والإصلاحات والخطط، لمواجهة الفقر الآتي والأحوال المعيشية منذ العام الماضي.

نظراً لما أنتجته جائحة كورونا من انعكاسات سلبية على الاقتصاد العالمي، ومع ما زادته من بؤس على بؤسنا وتعتيرنا، نحن مدعوون كلبنانيين لنكون جاهزين للأسوأ منذ الآن مراهنين على أنفسنا أولاً وآخراً...

فساعة تقع المصيبة الكبرى قد لا نجد من يبالي بنا كشعب ومجتمع وحكومة، وكل ما قد نصادفه حينها هو منظمات إغاثة دولية منهكة ودول مانحة منهمكة بمشاكل شعوبها ومجتمعاتها.

اللهمّ إشهد عليهم، اللهمّ بلغت.‬

MISS 3