العملة الرقمية الصينية... هل تُطيح بالدولار؟

02 : 00

لنتخيل أننا في العام 2022، فتتلقى الولايات المتحدة معلومات استخبارية من الموساد مفادها أن إيران حصلت على عناصر أساسية لأسلحتها النووية وبرامجها الصاروخية. لا تزال العقوبات الاقتصادية الأميركية ضد إيران على حالها، لكن حوّلت إيران معظم تجارتها الدولية إلى النظام الجديد المبني على عملة اليوان الرقمية الصينية التي تسمح لطهران بتجنب المعاملات بالدولار والتهرب من المؤسسات المالية الأميركية. نتيجةً لذلك، تزيد مبيعات النفط الإيراني إلى الصين والهند وأوروبا، ما يمنح النظام الإيراني عائدات ضرورية لا تستطيع السلطات الأميركية مراقبتها. وحين تقرر إيران الانتقال سريعاً إلى مرحلة تطوير الأسلحة النووية والصواريخ الجديدة ومتوسطة المدى، لن تتمكن الولايات المتحدة من استعمال العقوبات للرد على التهديدات المطروحة.

قد يبدو هذا السيناريو مستبعداً نظراً إلى هيمنة الدولار منذ وقتٍ طويل. لكن في أواخر نيسان الماضي، حققت الصين إنجازاً مهماً: بعد أكثر من خمس سنوات من الأبحاث في مصرفها المركزي، أصبحت الصين أول اقتصاد رائد يجري اختباراً لعملة رقمية وطنية على أرض الواقع. يحصل هذا المشروع التجريبي في أربع مدن صينية كبرى، وهو مؤشر واضح على تفوق الصين على الولايات المتحدة في مجال تطوير عنصر محوري من الاقتصاد الرقمي العالمي.

لا يبدو صانعو السياسة الأميركية مستعدين بعد للعواقب المرتقبة. سيؤدي ظهور العملات الرقمية إلى إضعاف فعالية العقوبات الأميركية، والحد من خيارات البلد للرد على تهديدات الأمن القومي من إيران وكوريا الشمالية وروسيا وجهات أخرى. حتى أنه قد يمنع السلطات الأميركية من تعقب تدفق الأموال بطرق غير قانونية. في غضون ذلك، من المتوقع أن تستعمل الصين خليطاً من اليوان الرقمي ومنصات الدفع الإلكتروني القوية (مثلAlipay وWeChat) لتوسيع نفوذها وزيادة تأثيرها الاقتصادي في إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا.

بدل التمسك بأمجاد الماضي، حيث سيطر الدولار على الاقتصاد طوال عقود، على الولايات المتحدة أن تتحرك فوراً لحماية تفوقها الاقتصادي من العملات الرقمية الوطنية خلال الحقبة المقبلة. تتطلب هذه العملية إعادة النظر بالاستعمال العدائي وأحادي الجانب للعقوبات وأدوات أخرى من السياسة الاقتصادية القسرية، فقد دفعت هذه العوامل بلداناً أخرى إلى البحث عن بدائل عن النظام المالي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة ويسيطر عليه الدولار. لكن ثمة حاجة أيضاً إلى إطلاق "مبادرة الدولار الرقمي" لإقامة تعاون بين الحكومة والقطاع الخاص وتطوير عملة وطنية رقمية، وإلا قد يؤدي الفشل في تقييم قوة اليوان الرقمي الصيني وتطوير بديل أميركي تنافسي إلى كبح النفوذ الأميركي العالمي في عصر المعلومات.

تهدف استراتيجية التنمية الاقتصادية التي وضعها الرئيس الصيني شي جين بينغ بعنوان "صُنِع في الصين 2025" إلى تحويل الصين إلى دولة رائدة في التكنولوجيا المتطورة. حين أعلن البنك المركزي الصيني في العام 2014 أن العملة الرقمية المدعومة من الحكومة تستطيع حماية استقلاليته المالية وتوسيع نفوذه الاقتصادي الدولي، كانت العناصر الأساسية قيد التطوير أصلاً: الذكاء الاصطناعي، تقنية "سلسلة الكتل" (Blockchain)، منصات الدفع الرقمي.





قد يؤدي اليوان الرقمي دوراً بارزاً في استكشاف مشاريع العملة الرقمية الوطنية نظراً إلى اهتمام الصين الواضح بتسهيل التجارة الدولية بطريقة تُضعِف النفوذ الأميركي وتزيد نفوذها الخاص. في بعض الأماكن، قد تتقاسم بكين بكل بساطة "مخزونها التكنولوجي" أو خبرتها لتسريع تطوير العملات الرقمية من جانب حكومات أخرى تريد التهرب من الرقابة الأميركية. قد تستعمل إيران مثلاً التكنولوجيا الصينية لإصدار ريال رقمي قابل للتشغيل البيني مع النظام الصيني. في ما يخص بلدان إفريقيا والخليج وجنوب شرق آسيا التي تدور أصلاً في المحور الاقتصادي الصيني، تستطيع بكين أن تشجّعها على استخدام اليوان الرقمي. ومثلما تموّل الصين مشاريع البنى التحتية الملموسة اليوم عبر "مبادرة الحزام والطريق"، يمكنها أن تستثمر في نقاط البيع والصرافات الآلية وتطبيقات الهواتف الخليوية وبنى تحتية مالية أخرى لإنشاء نسخة رقمية وتكميلية من "الحزام والطريق". سيكون التعامل باليوان الرقمي عبر منصة Alipay ممكناً مثلاً للأفراد إذا كانوا يرسلون أو يتلقون التحويلات وللشركات التي تجمعها علاقات استيراد وتصدير واسعة مع الصين. ومن خلال فرض الدفع باليوان الرقمي على المستوردين، أو مطالبة المتعاقدين في "مبادرة الحزام والطريق" بإعادة دفع قروضهم بهذه العملة، تستطيع الصين أن تزيد الطلب على عملتها الوطنية وترفع أعداد مستخدمي الشبكة التي تراقبها عن قرب.

ستحقق الصين مكاسب كبرى عند إطلاق عملة رقمية قابلة للتطوير ومدعومة من الدولة. وستتلقى شركات التمويل والتكنولوجيا الصينية التي تكون من أبرز المشاركين في النسخة الرقمية من "مبادرة الحزام والطريق" العائدات المشتقة من تسهيل المدفوعات العابرة للحدود. يستطيع بنك الشعب الصيني حينها أن يراقب جميع المعاملات باليوان الرقمي وقد يشرف أيضاً على مختلف المعاملات في الأنظمة التي تعزز تقنياته، ما يؤدي إلى زيادة تفوقه في قطاع المعلومات. اعتبر المسؤولون الصينيون أن هذا النظام يضمن إخفاء الهويات بطريقة خاضعة للمراقبة، ما يعطي الحكومة مجموعة بيانات أخرى لرصد النشاطات غير القانونية واستهداف المعارضين السياسيين والأقليات. يُعتبر التعاون الصيني مهماً منذ الآن، لكنه سيصبح أساسياً في العقوبات متعددة الجوانب وفي اتفاقيات اقتصادية أخرى.

في غضون ذلك، سيتراجع النفوذ الاقتصادي الأميركي، بدءاً من حصر العقوبات الأقل فعالية. في المراحل المقبلة، قد تعجز واشنطن مثلاً عن الانسحاب من الاتفاقيات بشكلٍ أحادي الجانب، كما فعلت مع الاتفاق النووي الإيراني في العام 2018، لأن البلدان الأوروبية تستطيع بكل بساطة أن تمنح إيران خطاً ائتمانياً (هذا ما أرادت فعله في العام 2019) أو أن تقوم بعمليات تجارية مع إيران (هذا ما تحاول فعله عن طريق "أداة دعم التبادل التجاري" أو "إينستكس") عبر استعمال عملات رقمية لا تتكل على البنية التحتية الأميركية للسوق. لن تعجز الولايات المتحدة حينها عن منع هذا النشاط فحسب، بل ستتراجع قدرة السلطات أيضاً على تعقب ذلك النشاط. باختصار، لن تتمكن أوساط الاستخبارات الأميركية بعد الآن من الاتكال على بيانات المعاملات المالية كي تعرف متى تشتري إيران أي مواد نووية.

الـــــدولار الـــــرقـــــمـــــي

خلال العقود القليلة الماضية، شكّلت القوة الاقتصادية الأميركية ركيزة للنفوذ الأميركي العالمي. حتى الآن، تستطيع واشنطن أن تشعر بالاطمئنان لأن النظام المالي الأميركي لم يجد ما يضاهيه. على صانعي السياسة أن يقرروا اليوم كيفية حمايته فيما تتحدى الصين، أو حتى شركة خاصة مثل فيسبوك، البنوك الأميركية وهياكل المدفوعات. يُفترض أن تجمع مبادرة الدولار الرقمي بين قوة واستقرار الدولار الأميركي وسهولة وفعالية التكنولوجيا الرقمية. لكن سيكون إطلاق هذه المبادرة صعباً. يسهل أن تعتبرها المؤسسات المالية وشركات التكنولوجيا تهديداً على حلول الدفع الرقمي التي تقدمها. يحتاج صانعو السياسة والمنظمون الأميركيون سريعاً إلى ملء الثغرات المعرفية عن تقنيات الدفع الرقمي وإحداث تعديلات في التنظيمات والسياسات لحماية خصوصية المستخدمين وضمان أمن البيانات والأنظمة في ظل الاقتصاد الرقمي.

حتى الآن، كان الاحتياطي الفدرالي الأميركي حذراً لكن بطيئاً في مقاربته. حدّدت لايل برينارد من مجلس محافظي الاحتياطي الفدرالي، في خطاب ألقته في الخريف الماضي، العوائق الأساسية أمام إصدار وإدارة دولار رقمي، منها الحاجة إلى ترسيخ السلطة القانونية للاحتياطي الفدرالي لإصدار الأموال بشكلٍ رقمي، والحاجة إلى تطوير قدرة تشغيلية لإدارة العملة الرقمية (عبر حماية خصوصية المستخدم، ومنع التزوير، وتخفيف المخاطر الإلكترونية)، والحاجة إلى فهم التداعيات على السياسة النقدية والاستقرار المالي. يجب أن تعالج مبادرة الدولار الرقمي هذه التحديات المطروحة. لكنّ الجمود سيؤدي مع مرور الوقت إلى نقل المدفوعات المتدفقة إلى نظام رقمي تديره جهات خارجية. سبق وكشفت التأجيلات والأخطاء التقنية في توزيع الحوافز المالية المرتبطة بوباء "كوفيد - 19" على الأُسَر والشركات الأميركية قلة كفاءة شبكة المدفوعات الأميركية. على صانعي السياسة الأميركيين أن يعيدوا النظر أيضاً بطريقة تطبيق العقوبات أحادية الجانب والثانوية (تمنع التعامل مع الكيانات المعرّضة للعقوبات ومع أطراف ثالثة تتعامل معها أيضاً) لمواجهة تهديدات الأمن القومي. في هذا السياق، يقول وزير الخزانة الأميركي السابق جاك ليو: "يجب أن ندرك أن الإفراط في استعمال العقوبات قد يضعف دورنا القيادي داخل الاقتصاد العالمي وفعالية العقوبات بحد ذاتها". حين تزيد الحاجة إلى فرض العقوبات، يجب أن تحرص واشنطن على التعاون مع حكومات أخرى، لا سيما البلدان الحليفة المهمة. تدفع العقوبات المفرطة وأحادية الجانب البلدان الأخرى إلى البحث عن بدائل، وقد يكون اليوان الرقمي الصيني الحل الذي يناسب الحلفاء والدول المارقة معاً.

في نهاية المطاف، تتجه الأنظمة النقدية إلى توسيع عملياتها الرقمية والانفصال عن الوسطاء الأميركيين. يجب أن يردّ صانعو السياسة على هذا الوضع عبر صياغة اتفاقيات متعددة الجنسيات لتقاسم البيانات وتوجيه الأنظمة الرقمية القابلة للتشغيل البيني وتنظيم خصوصية بيانات المدفوعات العابرة للحدود. على صانعي السياسة الأميركيين تحديداً أن يقودوا هذه الجهود منعاً لنشوء نظام مدفوعات مجزأ بدل السماح لدول أخرى بفرض شروطها.


MISS 3