على امتداد أيام حرب غزة بأسابيعها الثلاثة بقي لبنان الرسمي غائباً ومغيّباً، مع أنّ اسمه كان حاضراً في قلب الصدام منذ اللحظة الأولى لاندلاع المعارك.
تحدث الجميع عن لبنان بوصفه احتمال جبهةٍ ثانية مفتوحة لا تقل أهميةً وخطورةً عن جبهة القطاع المنكوب. لم تكن إسرائيل وحدها من حذّر من إحتمال الانفجار على الحدود اللبنانية. الولايات المتحدة الأميركية قالتها أكثر من مرة، والفرنسيون كرروا ذلك، وفي أنحاء العالم استعادوا التعابير ذاتها عن خطورة اتساع المعارك إلى حرب اقليمية بدءاً من جنوب لبنان.
الكلام عن لبنان كان موجهاً إلى طرف لبناني وليس إلى لبنان. حتى إيران التي هددت مراراً بفتح الجبهات لم يكن لبنان بالنسبة إليها أكثر من خندق للاستعمال. كان المنخرطون في الحرب والمحذرون من اتساعها، يوجهون رسائلهم إليها، وعبرها إلى «حزب الله»، ولم يكلف أحدهم نفسه عناء التوجه إلى السلطات الرسمية الاّ بالحد الديبلوماسي الأدنى.
بعد اندلاع المعركة اتصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بقادة المنطقة واستثنى لبنان، ثم عقدت قمة القاهرة وغاب لبنان، وحلّ صديق لبنان ايمانويل ماكرون في جولة غاب عنها لبنان، وحتى عندما جاء الرئيس الأميركي جو بايدن بنيّة عقد قمة مع الدول العربية المعنية، قبل أن يتم الغاؤها، لم يكن لبنان مدعواً، ومع ذلك يواصل الجميع حديثهم عن خطورة «انخراط لبنان» في الحرب ويوجّهون التحذيرات من كارثية حصول ذلك.
حقيقة الأمر أنّ العالم ينظر إلى لبنان في وضعه الحالي بوصفه لبنان «حزب الله»: واستطراداً لبنان إيران، تماماً مثلما كان ينظر إليه في وقت سابق بوصفه لبنان حافظ الأسد وقبله بقليل لبنان ياسر عرفات...
أحد أسباب التغييب هو غياب السلطة اللبنانية نفسها. فعندما يقول رموزها إنّه لا علاقة لهم بقرار فتح جبهة الجنوب فإنهم يضعون أنفسهم خارج التداول. وهم وصلوا إلى هذه الوضعية مثلما وصلوها في أزمنة سابقة، عندما تخلوا بحكم سطوة الترهيب عن آليات عمل النظام الدستوري المفترضة، فلم يعد للسلطة التنفيذية قيمة ولا للبرلمان دور غير الخضوع لمزاج ميزان قوى تفرضه الميليشيا أو المخابرات.
النتائج ملموسة في الفراغ الرئاسي والتصريف الحكومي وفي غياب مجلس النواب عن بحث مصير البلد، بينما تنشط الحسابات الخاصة ومشاريع ترتيب الأوضاع على خلفية انفجار قد يطيح بالبقية الباقية من بلد خسر كل شيء.
أمام اللبنانيين وجهة نظر أخرى غير هذا «الطموح» المتهور لجرّهم إلى خراب جديد. وهي وجهة نظر غالبية منهم من الجنوب إلى الشمال، تحمل مأساة الشعب الفلسطيني في القلب، وترفض الحرب الا في حال الدفاع عن النفس، وتقترح الاستفادة من تطبيق القرارات الدولية لحماية الحدود والانصراف العاجل إلى معالجة شؤوننا الداخلية. إلى وجهة النظر العارمة هذه يمكن للحكومة ورئيسها الاستناد لخوض تحرك عربي ودولي جريء يستعيد المبادرة والقرار. بهذا المعنى قد تكون زيارة نجيب ميقاتي إلى قطر مهمة وإشارة أولى يجب أن تتبعها إشارات... مضمونها الأول أنّ لبنان يرفض الانزلاق إلى حرب تدميرية أخرى.