في 19 أيلول، أطلقت أذربيجان هجوماً عسكرياً واسع النطاق ضد الإقليم الأرمني المستقل «ناغورنو كاراباخ» المعروف في أرمينيا باسم «آرتساخ». خلال 24 ساعة، فرضت أذربيجان سيطرة تامة على المنطقة، وتفكك جيش الدفاع عن «آرتساخ». هذه الأحداث المزلزلة أنهت صراعاً مجمّداً منذ ثلاثة عقود. شمل ذلك الصراع حروباً واسعة النطاق بين العامين 1988 و1994 وفي العام 2020، وأسفر عن هجرة معظم الأرمن الأصليين إلى أرمينيا.
يترافق استيلاء أذربيجان على «ناغورنو كاراباخ» بهذه الطريقة الدراماتيكية مع تداعيات جيوسياسية كبرى. تعتبر تركيا ما حصل انتصاراً استراتيجياً لكنها قلقة من رفض أرمينيا لخططها المرتبطة بضمّ «ناغورنو كاراباخ» اقتصادياً إلى أذربيجان وتركيا. في المقابل، تعتبر إيران أي انتصار لتركيا خسارة لها، فهي تخشى أن تزيد قوة أذربيجان وتعارض مشاريع ممرات النقل التركية لأنها قد تغلق الحدود المشتركة بين إيران وأرمينيا.
ضعفت مكانة روسيا حين رفضت الدفاع عن حليفتها في المعاهدة، أرمينيا، لكنها لا تزال قادرة على زعزعة استقرار جنوب القوقاز واستعمال قوتها هناك. كذلك، قد يؤدي استيلاء أذربيجان على «ناغورنو كاراباخ» إلى خلق فرص جديدة لمبادرة «الحزام والطريق» الصينية. أما أوروبا والولايات المتحدة، فهما تواجهان معضلة شائكة لأنهما مضطرتان للاختيار بين تقديم المساعدات الإنسانية إلى أرمينيا والحفاظ على إمدادات الطاقة من أذربيجان.
تشعر إيران بالقلق إزاء الوضع المستجد في جنوب القوقاز، رغم موقفها الحيادي الذي يميل إلى الإيجابية من ضم «ناغورنو كاراباغ» إلى أذربيجان. لا مفر من أن تقلق إيران من زيادة قوة أذربيجان، فقد تدهورت العلاقات بين البلدين بدرجة كبيرة منذ وصول الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى السلطة في العام 2021.
أما إسرائيل فقد زوّدت أذربيجان بسبعين في المئة من أسلحتها بين العامين 2016 و2020، وهي نسبة أعلى بكثير من حصة التصدير التركية بين 2011 و2020 (2.9%). ينظر المسؤولون الإيرانيون إلى هذه الشراكة الأمنية الوثيقة بعين الشبهة. تصاعد التوتر السائد بسبب تحركات استفزازية مثل تنفيذ تدريبات إيرانية واسعة النطاق بالقرب من حدودها مع أذربيجان في تشرين الأول 2021، وإقدام أذربيجان على اعتقال جواسيس إيرانيين مزعومين من وقتٍ لآخر. أخبر رئيسي مستشار رئيس أذربيجان إلهام علييف، خلف خلفوف، بأنه يريد تحسين العلاقات مع باكو، وقد ازدهرت العلاقات الثنائية بين 2014 و2016 فعلاً، لكن لا يزال انعدام الثقة سيّد الموقف بين البلدين.
رغم مزاعم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حول حصول تحوّل في موقف طهران، تعارض إيران بشدة إنشاء ممر «زنغزور» الذي تقترحه تركيا بالشكل الذي يتصوره البلد راهناً. نظرياً، يُفترض أن ترحّب إيران بشبكات الطرقات وسكك الحديد الجديدة في إطار ذلك الممر. يسمح تحسين الشبكات الإقليمية بربط المصدّرين الإيرانيين بالأسواق في جنوب القوقاز وكبح الأضرار الاقتصادية الناجمة عن منع وصول إيران إلى شبكات سكك الحديد السوفياتية في العام 1990. لكن رغم هذه المصالح التجارية التي ذكرها أردوغان حين حاول إقناع طهران برؤيته، يشكك المسؤولون الإيرانيون بمنافع هذا المشروع. تخشى إيران أن يعيق ممر «زنغزور» قدرتها على متابعة عملياتها التجارية على طول حدودها المشتركة مع أرمينيا، وقد حذرت المسؤولين في أذربيجان حديثاً من غزو محافظة «سيونيك».
عبّر المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية في طهران، برئاسة وزير الخارجية الإيراني السابق كمال خرازي، عن مخاوفه من احتمال أن يسمح الممر لأذربيجان وإسرائيل وتركيا بنشر الفوضى في المناطق الأذربيجانية في شمال إيران. يعتبر المتشددون الإيرانيون تلك الخطط التخريبية جزءاً من استراتيجية حلف الناتو لمحاصرة إيران، والصين، وروسيا.
قد يبدو المشهد الاستراتيجي العام إيجابياً بالنسبة إلى تركيا وشائكاً بالنسبة إلى إيران، لكن تبقى تداعيات استيلاء أذربيجان على «ناغورنو كاراباخ» أقل وضوحاً بالنسبة إلى روسيا. لا تنطبق الضمانات الأمنية الروسية، التي تعود إلى معاهدة مشتركة مع أرمينيا في العام 1997، إلا على الأراضي الأرمنية المعترف بها دولياً.
كان الرد الروسي الجامد على توغلات أذربيجان في «سيونيك»، في أيار 2021، قد أضعف تلك الضمانات الأمنية، لكن لا يشمل الاتفاق الأمني «ناغورنو كاراباخ» التي يعتبرها القانون جزءاً من أذربيجان. مع ذلك، استنكر رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان جمود موسكو. انتقد باشينيان علناً عدم مصداقية روسيا كحليفة وسلّط الضوء على تدهور القدرات العسكرية الروسية في أوكرانيا. ثم تابعت هذه العلاقة تدهورها في المرحلة اللاحقة: بعد مقتل خمسة عناصر من قوات حفظ السلام الروسية خلال اشتباك عرضي مع قوات أذربيجان المسلحة، فككت روسيا مراكز المراقبة التي تملكها في «ناغورنو كاراباخ» في 5 تشرين الأول.
لكن رغم هذه الانتكاسات، لا تُعتبر روسيا قوة ضعيفة في جنوب القوقاز. في ظل تدهور علاقة روسيا مع أرمينيا، زادت قوة شراكتها مع أذربيجان، فتوسّعت تبادلاتها التجارية مع ذلك البلد بنسبة 55.3% خلال الربع الأول من العام 2023 مقارنةً بالسنة الماضية. وبموجب اتفاق في تشرين الثاني 2022، وافقت شركة «غازبروم» على شحن حتى مليار متر مكعب من الغاز إلى شركة النفط الأذربيجانية المملوكة للدولة «سوكار»، فزادت التوقعات حول إقدام أذربيجان على إعادة تعبئة الغاز الروسي وبيعه في الأسواق الأوروبية. في الفترة الأخيرة، اعتبر ليونيد سلاتسكي، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الدوما الروسي، أذربيجان وبيلاروسيا الشريكتَين الأكثر مصداقية لروسيا في المساحات السوفياتية السابقة.
في غضون ذلك، وسّعت روسيا حضورها في جورجيا. قد لا يكون «حزب الحلم» الحاكم هناك موالياً لروسيا صراحةً، فهو دعم ترشيح جورجيا للانتساب إلى الاتحاد الأوروبي وطبّق العقوبات الثانوية الأميركية المفروضة على روسيا، لكنه يحافظ على علاقة فاعلة مع الكرملين. من المتوقع أيضاً أن يتوسع الوجود البحري الروسي على ساحل البحر الأسود في جورجيا، إذ يبني البلد قاعدة تابعة له في إقليم «أبخازيا» الانفصالي.
قد تبدأ استراتيجية روسيا في جنوب القوقاز بالتركيز على محور أذربيجان وجورجيا، لكن من المتوقع أن تسعى روسيا إلى إعادة بناء تحالفها مع أرمينيا على المدى الطويل. تستطيع روسيا أن تستعمل حملات المعلومات، التي تُركّز على تحركات باشينيان العقيمة تجاه الغرب وجموده إزاء أزمة الأرمن العرقيين في «ناغورنو كاراباخ»، كي تنشر اضطرابات معادية للحكومة وتُحسّن فرص مرشّحين موالين للكرملين قبيل الانتخابات البرلمانية الأرمنية في العام 2026.
اتخذت الصين من جهتها موقفاً مبهماً من صراع «ناغورنو كاراباخ». لكن يُفترض ألا يعتبر أحد ذلك الغموض مرادفاً للحياد. كانت الصين تصدّر أنظمة التسلح تاريخياً إلى أرمينيا، بما في ذلك أنظمة متعددة لإطلاق الصواريخ من طراز AR1A بقطر 130 كلم، وكانت تنظر إلى القومية التركية بعين الشبهة لأنها تخشى أن يثير الإيغوريون الاضطرابات في «شينجيانغ»، لكنها سعت في السنوات الأخيرة إلى تقوية علاقتها مع أذربيجان.
منذ العام 2005، زادت التبادلات التجارية بين الصين وأذربيجان بنسبة صادمة تصل إلى 2070%، ما يفوق زيادة التجارة الصينية الأرمنية بنسبة 380% خلال الفترة الزمنية نفسها. كذلك، وسّعت شركة الاتصالات الصينية «هواوي» بصمتها الرقمية في أذربيجان، وصدّرت الصين أنظمة تسلّح إلى الجيش الأذربيجاني، منها أنظمة إطلاق الصواريخ المتعددة «بولونيز» وأنظمة الصواريخ «كاسيرغا تي-300».
نظراً إلى تقرّب الرئيس الصيني شي جين بينغ من باكو، أصبحت الصين في موقفٍ يسمح لها بالاستفادة من استيلاء أذربيجان على «ناغورنو كاراباخ». بعدما بَنَت «مبادرة الحزام والطريق» ممر عبور من جورجيا إلى أوروبا، قد يمنح ممر «زنغزور» الصين نقطة وصول ثانية من جنوب القوقاز إلى الأسواق الأوروبية. بعد فترة قصيرة على بدء الحرب في «ناغورنو كاراباخ»، في خريف العام 2020، أدلت السفيرة الصينية في أذربيجان، جيو مين، بتصريح مثير للجدل حين قالت إن ممر «زنغزور» سيفيد مشروع النقل الصيني «حزام واحد، طريق واحد».
على صعيد آخر، تتماشى طموحات أذربيجان بالتحول إلى معقل للاتصالات في أنحاء أوراسيا مع مبادرة «طريق الحرير الرقمي» الصينية. قد يسمح الوضع المستجد في جنوب القوقاز لتركيا بتسويق مشروع «الممر الأوسط» أمام الصين. على غرار بكين، يريد أردوغان أن يتجنب الممر المقترح بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، بعدما أعلنت عنه دول عدة في 10 أيلول ومن المنتظر أن يمر بالإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، والأردن، وإسرائيل، واليونان.
يطرح تبدّل ميزان القوى في جنوب القوقاز مشاكل على القوى الغربية. تنتج الاضطرابات القائمة بين أرمينيا وروسيا فرصاً لتوثيق العلاقات بين الغرب ويريفان. اتّضح توجّه باشينيان نحو المحور الغربي بعد نشر «بعثة الاتحاد الأوروبي» في أرمينيا، في شباط 2023، من دون موافقة أذربيجان، وتنفيذ تدريبات عسكرية مشتركة بين الولايات المتحدة وأرمينيا.
تحرص فرنسا من جهتها على إرسال معدات عسكرية إلى أرمينيا، لكن يعترف عدد كبير من المسؤولين الغربيين بعجزهم عن كبح سياسة التطهير العرقي المزعومة التي تطبّقها أذربيجان في «ناغورنو كاراباخ». اعترضت المجر على بيان مشترك صادر عن الاتحاد الأوروبي لإدانة تحركات أذربيجان، فعجز الاتحاد عن التصدي لخطاب باكو الذي يزعم أن البلد يريد بقاء الأرمن في «ناغورنو كاراباخ».
لكن تتراجع قدرة الغرب على التأثير بتصرفات باكو بعد زيادة صادرات الغاز الأذربيجانية إلى أوروبا في العام 2022، منها زيادة في المبيعات إلى إيطاليا بنسبة 41.2%، فضلاً عن دور البلد المحوري في مشروع خط أنابيب الغاز الطبيعي الذي انتهى حديثاً بين اليونان وبلغاريا. باستثناء تقديم مساعدات إنسانية عاجلة لتسهيل إعادة توطين اللاجئين الأرمن القادمين من «ناغورنو كاراباخ»، من المتوقع أن تقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على الهامش إذا اتخذ علييف أي خطوات لاحقة ضد أرمينيا.
رغم أجواء البهجة في باكو ومظاهر اليأس في يريفان، قد يفيد حل الصراع في «ناغورنو كاراباخ» القوى البعيدة أكثر من أصحاب المصلحة الإقليميين. فيما تتخبط القوى الخارجية للاستفادة من مشاريع النقل والبنى التحتية الجديدة والتقرب من أذربيجان التي تزداد قوة، من المتوقع أن تتراجع أهمية حقوق الإنسان. إنها نتيجة مأسوية بالنسبة إلى أكثر من 100 ألف أرمني انقلبت حياتهم رأساً على عقب بسبب هجوم أذربيجان الخاطف في «ناغورنو كاراباخ».