د. نبيل خليفة

إجتياح غزّة... إسرائيل تُعيد حساباتها: النصف بدل الكلّ!

2 تشرين الثاني 2023

02 : 00

لا تزال عمليّة «طوفان الأقصى» تثير الجدل والاجتهادات داخل الجهة المستهدفة وهي اسرائيل، وداخل الجهة القائمة بها وهي حركة «حماس» الفلسطينية. وطبيعي أن تثير عملية عسكريّة بمثل هذا التخطيط وهذه الشموليّة وهذا الاستهداف الذي يتناول مصير الدولة العبريّة بالذات، أن تثير العديد من علامات الاستفهام حول كيفيّة تدريب القوى العسكرية على القيام بها وان يتم ذلك بغفلة عن الأجهزة الاسرائيليّة. ردّة الفعل الفورية داخل السلطة الاسرائيليّة بقيادة بنيامين ناتنياهو كانت الاعلان الفوري عن قرار باجتياح قطاع غزّة. إلاّ أن هذا القرار لم يترجم على ارض الواقع وصار مفهوم الاجتياح عرضة لاجتهادات كثيرة معه وضدّه.

فما الذي يمكن قوله عن احتمال اجتياح اسرائيل لقطاع غزّة؟ وما الذي يجعل اسرائيل تعيد حساباتها حول هذا الاجتياح؟

1 - ينبغي التذكير بداية بأنّ قطاع غزّة هو مقطع طولاني من خارطة فلسطين التاريخيّة واقع على شاطئ البحر المتوسط. وهو القسم الوحيد الذي لم تقم اسرائيل بإدخاله داخل الخريطة الاسرائيليّة ببعدها اليهودي الكامل أو الجزئي كما هي حال الضفة الغربية. ومع تطوّر القضية الفلسطينية من زمن عرفات وبعده، صارت غزّة قاعدة للأصولية الاسلامية السنيّة. ولذا أخذت منظمة «حماس» زمام المبادرة باعتبارها الممثل الأول للأصولية الاسلامية داخل الحركة الفلسطينية. وزاد في تقويّة هذا التوجّه لدى «حماس» احتضانها من جانب الجمهورية الاسلامية الايرانية كتعبير عن ثورة الإمام الخميني.

ذلك أنّ ايران استغلت وجود الاقليات الشيعية داخل بلدان المشرق العربي (لبنان وسوريا والعراق) لتجعل منها رأس حربة لسياستها في المنطقة، في حين أنّ فلسطين بمعناها العربي التاريخي ليس فيها أقلية شيعية كي تستغلها ايران وإنما فيها معارضة فئوية داخل منظمة التحرير الفلسطينية هي بالضبط حركة «حماس» في مواجهة حركة السلطة الفلسطينية أي حركة فتح. لذا بذلت ايران جهوداً مهمّة وقدّمت اغراءات لـ»حماس» كي تسير في خط السياسة الايرانية الاقليمية. وهكذا كان.

إذ بفضل الدعم الايراني المعنوي والسياسي والعسكري والمادي لـ»حماس» صارت «حماس» أحد الأذرع الأساسية لايران داخل المنطقة إلى جانب «حزب الله» في لبنان مع فارق اساسي وهو عدم تطابق المنحى الايديولوجي لدى الجانبين، أي بين الأصولية الشيعية (لايران وحزب الله) والايديولوجية السنيّة (لحماس).

2 - قامت «حماس» بعملية «طوفان الأقصى» في السابع من اكتوبر 2023 وفيها اختارت «حماس» العنوان المناسب والتكتيك المناسب. العنوان المناسب: باعتبار المسلمين، جميع المسلمين يـتأثرون بواقع المسجد الأقصى ويشعرون بألم عميق مما يفعله اليهود في ساحة المسجد وحوله. إذاً عنوان الحرب هو عنوان مغرٍ ومثير لدى جميع المسلمين وليس لدى فئة منهم. ومن ثم التكتيك المناسب: القائم على محاولة اجلاء اليهود وطردهم أو شطبهم عن خريطة فلسطين وجوارها. وفي تحقيق ذلك تدخل وسائل التمويه والتحدي والمفاجأة والإلغاء لكافة القوى اليهودية المتواجدة على ساحة المعركة. وهو ما قام به الأصوليون الفلسطينيون!

3 - لقد كانت عملية «طوفان الأقصى» تجربة مرّة للدولة العبرية وامتحاناً لم تواجه مثله القوى العسكرية والأمنية الاسرائيلية من قبل. والأهم والأخطر من ذلك أنّها لم تتحسَّب له ولم تترقبه أو تكتشف الأمر الذي جعل رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين ناتنياهو يلوم قادة القوى الأمنية المسؤولة عن هذه الفجوة الأمنية ثم عاد بعد ذلك ليتراجع عن كلامه ويعتذر لأسباب داخلية.

4 - ردّة الفعل الاسرائيلية على هذا «الطوفان» كانت بالتأكيد القيام بعملية اجتثاث لحركة «حماس» من كافة أنحاء قطاع غزّة وبالتالي الشروع في عملية واسعة وشاملة لاجتياح القطاع كلّه ووضعه تحت سيطرة الجيش الاسرائيلي. مثل هذا الهدف هو صحيح بالنسبة لإسرائيل ولكن تنفيذه ليس بالسهولة التي يظنها الاسرائيليون. فمنذ الشروع في عملية الاجتياح بدأت اسرائيل تواجه صعوبات كبرى في تحقيق هذا الهدف. وشرعت بالتالي تعيد حساباتها فلا تقبل التسليم من جانب وتعمل على وضع الخطط لمواجهة مثل هذا المأزق التاريخي الذي واجهته الدولة العبرية!

أسباب متعددة

فما هي الأسباب العامة التي تجعل، بل جعلت اسرائيل تعيد حساباتها حول موضوع اجتياح قطاع غزّة؟

• أسباب جيو- ديمغرافية، وفيها قرار اسرائيل بدعوة سكان غزّة للتوجه إلى المنطقة الجنوبية (سيناء وما حولها) وبالتالي تهجيرهم من شمال القطاع إلى جنوبه، وهو مطلب يذكِّر بما يقوله هنري كيسنجر عن وجود دول في الشرق الأدنى يمكن الاستغناء عنها، وعنده ان مثل هذا الاستغناء يتم خدمة للقضية اليهودية على حساب القضية العربية - الفلسطينية: فلسطين هي النموذج الأوّل ولبنان هو النموذج الثاني في هذا المجال لاحتواء واستيعاب اللاجئين الفلسطينيين.

• أسباب لوجستية، وهي المتعلقة بموضوع الأنفاق داخل القطاع. ذلك ان «حماس» زرعت الطبقة الأرضية التحتية للقطاع بمجموعة من الأنفاق التي يصعب بل يستحيل معرفتها والتعرّف اليها مسبقاً مما يجعلها أشبه بقنابل بشرية موقوتة تنفجر في وجه الجندي الاسرائيلي من حيث لا يتوقع وفي مكان مخفي. ومثل هذا الواقع يجعل المواجهة العسكرية أمراً صعباً جداً لأنّها تخضع للحظ ليس إلاّ. وهو ما يزيد من خسائر الجيش الاسرائيلي إذ هو يتحرك كما لو كان في حقل ألغام غير معروف لديه!

• أسباب انسانية، وهي المتعلقة بمصير الأسرى. ذلك أن استعمال اسرائيل الشدّة مع الفلسطينيين قد يجعلهم يعتدون على الأسرى لديهم وخاصة الأميركيين والاسرائيليين.

• أسباب داخلية، وهي المتعلقة بالصراع المحتدم داخل المجتمع الاسرائيلي بين اليمين واليسار والذي انعكس على تأليف الحكومة الاسرائيلية ولا يزال يلقي بثقله على وضعية السلطة، بحيث يطالب فريق غير قليل بمحاكمة رئيس الوزراء لاتهامه بالتقصير في المحافظة على أمن اسرائيل.

أمام هذا الواقع الصعب والمعقّد تقف السلطة الاسرائيلية عاجزة عن عدم فعل أي شيء، وعن السعي لفعل شيء هو اجتياح قطاع غزّة. لهذا عمدت اسرائيل الآن إلى أسلوب القضم المتدرّج للقضاء (نصفه الشمالي على الأقل) كبديل للاحتمالين المؤلمين لها: الأول عدم فعل اي شيء، والثاني القيام باجتياح كامل للقطاع. مع العلم بأن اسرائيل كانت دائماً ومنذ قيام الدولة العبرية عام 1948 تجهد وتجتهد كي لا تضعف جيشها في مرحلة مهمة من تاريخ اسرائيل. هذا هو الوضع الاقليمي حتى كتابة هذه السطور.

على أن الأمور قد تتغيّر طبقاً للتطوّرات العسكرية على جبهة فلسطين وجبهة لبنان أيضاً. وهذا موضوع آخر له تحليل آخر!


MISS 3