عيسى مخلوف

قَتلُ البشر وقتلُ الشَّجر!

4 تشرين الثاني 2023

02 : 00

«في أعالي حرش إهدن، على علوّ ألفي متر، أُبعدُ الحجارةَ البيضاء عن بقعة من تربة سمراء. تناولني ساندرا شتلة الأرز، فأضعها في الموقع المُعَدّ لها، وأجمع حولها التراب وأمسّده بيديّ، ثمّ أحيطها بدائرة من الحجارة ليُحفظ فيها الماء». بهذه العبارة يبدأ فصل من كتاب جديد للكاتب الفرنسي دومينيك روك عنوانه «عطر الغابات/ الإنسان والشجرة، علاقة ترقى إلى ألوف السنين»، صدر مؤخّراً عن دار «غراسيه» الباريسيّة.

كُتُب كثيرة مخصّصة للأشجار وأسرارها صدرت في السنوات الأخيرة، لكنّ مؤلّف هذا الكتاب الذي نذر حياته للغابات وأشجارها، أراد أن يروي سيرة الغابات النادرة في العالم، وأن يرصد تحوّلاتها مع مرور الوقت، وقد تفقَّد نسبة كبيرة منها في أنحاء العالم، من أرز لبنان إلى أشجار الزان في أوروبا، مروراً بأشجار كاليفورنيا الضخمة وأشجار الباراغواي. ولقد أسهب في الحديث عن أرز لبنان - هذه الكاتدرائيّات الحيّة العابرة للزمن - رابطاً إيّاه بتاريخه الأسطوري والواقعي معاً، من ملحمة جلجامش إلى رغبة ملوك بلاد ما بين النهرين وبلاد وادي النيل في استعمال هذا الخشب في بناء قصورهم ومعابدهم وسفنهم الأولى.

بالإشارة إلى جلجامش، بطل أحد النصوص الأقدم في التاريخ، يلاحظ دومينيك روك أنّ هذا البطل هو «الحطّاب الأوّل»، أما الرحلة التي قام بها إلى جبل لبنان برفقة إنكيدو، وإقدام الإثنين على قتل خُمبابا، حارس الأرز، فذلك ليتسنّى لهما اقتطاع ما شاءا من ثروته ومن خشبه الخالد. إنها صورة مجازيّة لتاريخ يبدأ معه عهد جديد لعلاقة الإنسان الشرسة بالطبيعة، لا سيّما بالغابات والأشجار. علاقة تبدأ بالفأس ولا تنتهي بالمناشير الكهربائيّة التي تحصد الأشجار بسرعة فائقة في زمن تتهدّد فيه المقوّمات الأولى للحياة، بسبب سياسة لا تحسب حساباً إلّا للمردوديّة المادّية والربح وإن على حساب مصير الإنسان نفسه.

لقد ساهمت أسطورة جلجامش، إضافة إلى ما ورد في التوراة التي يحضر فيها الأرز في حكاية بناء قصر الملك سليمان، كما يحضر في المزامير، وفي سفر إشعياء، وكذلك في كتب الكتّاب والرحّالة في وقت لاحق، وفي قصائد الشعراء ومنهم الشاعر الفرنسي لامارتين، وفي الأعمال الفنية كما في لوحة لغوستاف دوريه، وقد ساهمت كلّها في بناء أسطورة أرز لبنان وارتباطه بالمقدَّس والماوراء.

من غابة الأرز في لبنان إلى غابات العالم، يتابع دومينيك روك جولته ويرسم أحوال الغابات وخريطة وجودها، كما يستشرف مستقبلها داعياً إلى الانتباه إلى هذه الثروة الفريدة، أو ما بقي منها حتى الآن، والتي من شأن القضاء عليها تهديد المقوّمات الأولى للحياة على الأرض، لا سيّما أنّ الخطر المحدق بها كحال المخاطر المرتبطة بالاحتباس الحراري والتلوّث البيئي وذوبان الجليد القطبي. إنها الصرخة نفسها التي بدأ يطلقها العلماء منذ قرابة نصف قرن، خصوصاً في المرحلة الأخيرة عندما تبيّن أنّ البشر قطعوا، خلال زهاء قرن من الزمن، نصف الغابات التي كانت تكسو الأرض منذ ألوف السنين.

أمام ضُمور الجزء الأكبر من غابات العالم وأحراشه، يزداد طرح السؤال: هل ستختفي الغابات في يوم قريب؟ سؤال تستتبعه أسئلة أخرى: هل في استطاعة البشرية أن تعيش من دون أشجار؟ وهل كان في مقدور الحضارات أن تنمو لولا المساعدة التي قدّمتها الشجرة للإنسان، هي التي تُنقّي الهواء وتعطّره، تطعمُنا وتظلّلنا، وتذكّرنا بنعمة الصمت، فضلاً عن جمال حضورها وبهاء طلّتها؟ ولئن كانت تذكّرنا بمرورنا السريع، فهي تعلّمنا التسامح. تقول لنا إنّ بإمكانها، أيّاً كان عددها، أن تتعايش بسلام.

يراهن مؤلّف «عطر الغابات» على أنّ الجنس البشري لا بدّ أن يعي ضرورة عقد مصالحة مع الشجرة، ليس حبّاً بها، بل حمايةً لنفسه، لذلك فهو يدعو الإنسان إلى معرفة أهميتها في حياته، لكن، هل سيتمكّن هذا الكائن خصوصاً إذا كان في موقع السلطة، من لجم نوازعه القاتلة، وجشعه، وجموحه الانتحاري، قبل فوات الأوان؟ هل سيتوقّف عن وضع ذكائه وفطنته في استغلال الطبيعة واستعباد أبناء جنسه؟

القادرون على شنّ حروب يذهب ضحيتها عشرات الملايين، كما حدث في الحربين العالميتين في القرن العشرين، وكما يحدث اليوم في عالم يترنّح على حافة هاوية، هل تعنيهم الطبيعة والبيئة وأشجار الغابات؟ هل يتنبّهون إلى ما سيؤول إليه مستقبل البشر على الأرض؟ وهل من إمكانية معهم لخلاص ما، ليقظة ينتصر فيها العقل على غرائز العنف والموت؟


MISS 3