عبدالله ريشا

وحدة الساحات... من كميل شمعون إلى حسن نصرالله

10 تشرين الثاني 2023

02 : 00

عام 1956 رفض الرئيس كميل شمعون المطلب الإسلامي بقطع العلاقات مع الدول الغربية التي هاجمت مصر خلال أزمة السويس، لتبدأ بعدها أزمة حكم ومواجهات دامية في لبنان من ثورة، إلى ثورة مضادّة. رفض يومها المسلمون ربطهم بمشروع وحدة ساحات «حلف بغداد» الذي كان الرئيس شمعون منخرطاً فيه على رأس الشرعية اللبنانية، ساحات أراد الرئيس اللبناني ربط لبنان بها من إيران الشّاه، إلى عراق نور السعيد، مروراً بالمملكة الهاشمية في الأردن سعياً وراء حماية إقليمية من خلال مبدأ أيزنهاور الذي يحمي المنضوين تحته من خطر تمدّد الشيوعية.

ففي ظلّ قوة المارونية السياسية، لم يكن الحياد خياراً ولا التحييد ممرّاً إلزامياً لتحقيق الأمن والاستقرار. ومع سقوط الساحة الرئيسية والانقلاب على نوري السعيد في بغداد، استشعر كميل شمعون بخطر وجودي من خلال اختلال موازين القوى لصالح الثوار ومؤيّدي عبد الناصر والوحدة العربية، فطالب بالتدخّل الأميركي العسكري، وكانت عملية «الخفّاش الأزرق» في 15 أيلول 1958 مع دخول 15 ألف جندي أميركي إلى المياه الإقليمية اللبنانية نصرةً للشرعية.

سقطت تسمية مبدأ أيزنهاور 1958، وبقيت استراتيجية الرئيس المسيحي القائمة على ربط لبنان بساحات النزاعات الإقليمية سعياً وراء حماية الشرعية اللبنانية من الأخطار الداخلية والخارجية. عام 1982 زار الرئيس أمين الجميل الولايات المتحدة، وفي تصريح شهير وعالي النبرة وبعد تلقيه جرعة دعم من الرئيس الأميركي رونالد ريغان، قال إنّ كل قذيفة تطلق على بيروت سترتد على دمشق. أعاد التاريخ نفسه بعد 26 سنة، بوارج أميركية على الشاطئ اللبناني وثورة قادتها التنظيمات الإسلامية المعارضة لعهده لإخراج الجيش من بيروت الغربية.

إنّه قدر الموارنة أن يجدوا أنفسهم مرغمين على الاستعانة بدولة عظمى تفاوض على رؤوس حلفائها، من صفقة مع عبد الناصر سنة 1958 وعنوانها فؤاد شهاب أو الفوضى، إلى صفقة مع حافظ الأسد سنة 1988 وعنوانها مخايل الضاهر أو الفوضى.

عام 1988 أصبحت الشرعية شرعيتين برئاسة ميشال عون وسليم الحص، ومع تراجع الصراع السوفياتي الأميركي قبل سنتين من سقوط حائط برلين، تحالف الخصمان اللدودان عون و»القوات» مع بعث صدام حسين بمواجهة الحلف البعثي الأسدي. ربطت المناطق الشرقية بساحات بغداد وفلسطين، ياسر عرفات على شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال، وسلاح عراقي ملأ مستودعات الجيش والقوات اللبنانية تحضيراً للمنازلة الكبرى. مجدّداً، سقطت بغداد بعد وقوعها بمصيدة اجتياح الكويت وبفعل ترابط الساحات سقطت المناطق الشرقية والشرعية اللبنانية بعد الهجوم السوري في 13 تشرين 1990.

لم تنجح ساحات بيروت وبغداد بإسقاط الحكم في دمشق. وفي العام 2012 ربط فريق 14 آذار ساحات سوريا ومصر وتونس وليبيا بساحات لبنان، وربط بين حمص وحماه وإدلب ودير الزور ودرعا والأشرفية وطرابلس وعاليه وزحله وتونس والقاهرة وبنغازي.

في المقابل ربطت قيادات أخرى لبنان بساحات إقليمية ودولية. فساحات مصر وسوريا والجمهورية العربية المتّحدة أمّنت الدعم الأمني والسياسي لأخصام الرئيس شمعون، ووحدة ساحات إيران والعراق وسوريا شكّلت عصب محور المقاومة أو الممانعة بوجه مشروع المحافظين الجدد بعد اجتياح العراق عام 2003، ومن ثمّ بوجه ما سمّي نظرياً بالربيع العربي، وعملياً باجتياح «الإخوان المسلمين» للأنظمة العربية برعاية وتوجيه أنقرة والدوحة وواشنطن وباريس.

وهكذا ربط «حزب الله» لبنان بساحات محور المقاومة ليفشل المشروع الأميركي الآتي من بغداد عام 2005، ومخطّط إسقاط دمشق عام 2011 ومن بعدها بيروت بقبضة «الإخوان المسلمين» الآتين من أنقرة والدوحة. وهكذا أيضاً ربط كميل شمعون لبنان بساحات محور أيزنهاور، ليمنع التمدّد السوفياتي ويفشل مشروع إسقاط بيروت بقبضة جمال عبد الناصر. فمن قلب المارونية السياسية في الأمس إلى قلب محور المقاومة اليوم، تبقى الإرتدادات والنتائج محكومة بحسن التوقيت وصوابية الرّهانات الرابحة.

إنّها وحدة الساحات حيث لا مكان للحياد والتحييد إلا في خطابات المزايدة وتسجيل النقاط. إنها حقيقة وطن سيبقى يبحث عن ساحات تحميه من شرّ المشاريع المحيطة التي تشكّل خطراً على أمنه القومي، بانتظار أن تتوحّد ساحته الداخلية تحت مفهوم واحد وجامع لمبدأ الأمن القومي اللبناني.

(*) أمين عام المركز اللبناني للدراسات الإستراتيجية


MISS 3