زيزي إسطفان

وقّع على نشر الدروع لكنه عاد وطلب إزالة الشارة الكبيرة

هل أخطأ وزير الثقافة في حماية إرث لبنان الثقافي؟

10 تشرين الثاني 2023

02 : 00

الجيش في دورة تدريبية للحفاظ على المواقع الأثرية
ليست المرة الأولى التي يثير فيها وزير الثقافة جدلاً في الأوساط الاجتماعية والفكرية في لبنان، فالوزير الملتزم سياسياً وعقائدياً والمنخرط بكليته في محور الممانعة يجهر برأيه صراحة ويُسقط على القضايا الوطنية والإجتماعية قناعاته الشخصية التي قد لا يتوافق الكل عليها. وآخر تجليات قناعاته إزالة «درع الحماية الأزرق» عن قلعة بعلبك الأمر الذي شكّل صدمة للعاملين على حماية الآثار والإرث الثقافي للبنان على صعيد محلي وعالميّ. فما وظيفة «الدرع الأزرق» في الحروب وهل إزالته تعرّض المعالم التراثية للخطر؟

الوزير المرتضى شرح موقفه وأسبابه مختصراً إيّاها بأن العدو الإسرائيلي لا يحترم مواثيق دولية فماذا يفيد الدرع تجاه معتدٍ مجرم؟ فنّد الوزير اعتداءات إسرائيل على معالم تراثية وثقافية وإنسانية دون أي رادع وبغطاء دولي، وذهب أبعد من ذلك في شنّ حملة مضادة على كل من عارض موضوع إزالة الدرع الأزرق. وكانت جمعية «بلادي» المختصة في الحفاظ على التراث قد وضعت الدرع الأزرق الكبير على قلعة بعلبك، وجاء القرار بإزالته ليخلق توتّراً بين الطرفين ويعيد تسليط الضوء على تفرّد وزراء الحكومة المستقيلة بقراراتهم.

عدوّ لا يمكن الركون إليه

بداية حاولنا التواصل مع وزير الثقافة لكنه كان خارج البلاد لحضور المؤتمر العام لمنظمة الأونيسكو المنعقد في باريس بحضور المنظمات العالمية. لكن أحد المصادر في وزارة الثقافة أبلغنا أن الوزير «ما كان معو خبر» وقد تمّ تعليق الدرع الأزرق الكبير على القلعة من دون استشارته والشارات الزرقاء الصغيرة موضوعة أصلا في القلعة ولا لزوم لوضع غيرها. وتؤكد هذه المصادر أن الوزير قد طلب شفهياً عدم وضع الشعار الكبير لأنه أولاً سيثير حالة من الخوف عند أهالي بعلبك وثانياً والأهم بسبب قناعة الوزير المطلقة بأن الشعار لا يحمي من اعتداءات العدو الإسرائيلي. وأكد المصدر لـ»نداء الوطن» أن موقف الوزير قد عبّر عنه في بيان صحافي له ولا يزال على قناعته ذاتها.

أما بيان الوزير الأساسي الذي أصدره عقب إزالة الدرع فقد جاء فيه أن «الفظائع في غزّة أثبتت أن مثل هذه «الدرع» لا تحمي شيئاً، ما يحمي لبنان وشعبه والأملاك الخاصة والعامّة فيه هو جيشنا الباسل ومقاومتنا المقتدرة، درعنا الحصينة، التي جعلت العدو الإسرائيلي متيقّناً بأن مسّه فينا سوف يجرّ عليه ويلات لا قدرة له على تحمّلها» وفي بيانه أكد المرتضى «هنالك من اجتهد فأخطأ بوضع ذلك الشعار ظنّاً منه بأن التذكير بالمواثيق الدولية والاحتماء بها والاحتكام إليها تحمينا وتحمي ممتلكاتنا ومعالمنا الأثرية، لكن الواقع أن هذه المواثيق حبرها بهت وجرى طمسها بفعل دماء أطفال غزة التي أريقت من قبل إسرائيل وداعميها».

ومع تصاعد الحملة المندّدة بقرار الوزير محلياً تصاعدت وتيرة الردّ من قبل هذا الأخير على «من يدّعون الرغبة في حماية معالم لبنان الأثرية» حسب قوله إذ هاجمهم قائلاً «ينبرون لإعطائنا المواعظ إذا ما أزلنا شعاراً من شعارات «شرعيتهم» زاعمين هم وأبواقهم أنّه سوف يحمي قلعة بعلبك من هجومٍ إسرائيلي».

وشبّه الوزير الشعار بـ»ورقة توت» المقصود بها ستر عورات المنتقدين المتمثلة بجرائمهم وتواطئهم أو في أحسن الأحوال فشلهم وانكفائهم وعجزهم، وطالب هؤلاء بمراجعة مواقفهم المؤيّدة لارتكابات إسرائيل ليستعيدوا شيئاً من الصدقية أو أن يصمتوا ويستتروا هم وأبواقهم...

المرتضى ضرب ضربة على حافر القوى والمنظمات الدولية وأخرى على مسمار الجمعيات المحلية التي انتقدت القرار، دون أن يمنعه ذلك من المشاركة في مؤتمر دولي تحضره تلك القوى ذاتها التابعة للشرعية الدولية التي انتقد مواقفها بقسوة.




شعار مصغر على صرح لبناني

الشعار الأزرق


«جهوزية» لبنانية

جمعية «بلادي» التي تواصلنا معها لم تشأ الدخول في سجال مع الوزير لكنّ أحد مسؤوليها شرح لـ»نداء الوطن» بالتفصيل ما جرى قائلاً إن وزارة الثقافة هي المعنية الأولى في حماية الآثار والإرث الثقافي في لبنان وإزالة الدرع الأزرق عن قلعة بعلبك كان بقرار مباشر من الوزير محمد المرتضى. أما الشعار المذكور الذي تم رفعه على القلعة بارتفاع خمسة أمتار وعرض ثلاثة فأريد منه أن يكون واضحاً وظاهراً وقد تمّ تعليقه للتأكيد على أن لبنان يطبق اتفاقية لاهاي لحماية الإرث الثقافي. هذه الاتفاقية التي أعلنت في العام 1954 في لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالات النزاع المسلح وتم التصديق عليها من قبل الأونيسكو في أول حزيران عام 1960. ثم وفي العام 1999 صدر البروتوكول الثاني للاتفاقية وصدقت عليه الأونيسكو. وكان لبنان قد وقّع على الاتفاقية الأولى لكنه لم يطبقها ثم صدق عبر برلمانه على البروتوكول الثاني عام 2019. تفرض هذه الاتفاقية شروطاً معينة على الدول الموقعة منها وضع الحكومات خطة إنقاذ في حال وجود نزاعات مسلحة، تدريب الجيش أو كوادر مختصة لحماية الممتلكات الثقافية ووضع لائحة بهذه الممتلكات إضافة الى وضع الدرع الأزرق على المواقع الأثرية خلال النزاعات لتأمين الحماية لها.

لبنان وفق جمعية «بلادي» وبالتنسيق مع المكتب الإقليمي للأونيسكو أجرى دورات تدريبية مع وزارة الثقافة ومديرية الآثار والجيش اللبناني عبر برنامج «جهوزية «على كيفية حماية الممتلكات الثقافية والأثرية وبات في موقع متقدم جداً في حماية الإرث الثقافي وتطبيق اتفاقية لاهاي. وكان الجيش اللبناني من جهته قد نفّذ مع قوات الكارابينيري الإيطالية، وهي قوات الشرطة الوطنية والأجنبية المعنية بالتراث الثقافي، دورة لتبادل الخبرات في هذا الموضوع والخضوع لتدريب مشترك بهدف الحفاظ على الإرث الثقافي ورفع مستوى المعرفة والجهوزية لاحتمال حدوث كوارث قد تضرّ بالتراث اللبناني.

ويتابع المسؤول في الجمعية قائلاً «نحن أمّنا تمويلاً من سفارة النروج لوضع الدرع الأزرق ولم نتحرّك إلا بعلم من وزارة الثقافة وأخذنا الموافقة لأنها من ضمن إطار العمل في الاتفاقية والوزير هو من وقّع على نشر هذه الدروع. لكنه عاد وطلب إزالة الشارة الكبيرة التي وضعت على قلعة بعلبك وأبقى على الشارات الصغيرة. ما يجب التأكيد عليه هنا أن لبنان لم يخرج من الاتفاقية لأنه صدق على الدخول فيها عبر قانون تقدّمت به الحكومة وأقرّ في المجلس النيابي عام 2019.




في اليونان

على قلعة بعلبك


الوزير المرتضى



جمعية «بلادي» تعترف أن الوزير لم يزل الدروع الزرقاء الموضوعة في المعالم الأثرية لكنّ تصرفه غير مبرر وإن كان قد برّره سياسياً، والمواثيق التي وقّع عليها البرلمان اللبناني تقول بوجوب استخدام الشارة في النزاعات. وفي أعوام 1978 و1982 استخدمت هذه الدروع الزرقاء في 22 موقعاً لحماية آثار لبنان لا سيما في صور وصيدا. ويؤكد المسؤول في جمعية بلادي أن هذه الدروع لا تحمي 100% والكلّ يعرف أن إسرائيل لا تنصاع للقوانين الدولية ولا تحترمها لكننا نقوم بما علينا.

إتفاقية لاهاي لحماية الإرث الثقافي

بالعودة الى اتفاقية لاهاي 54 نسأل الباحث في التاريخ جواد بو خليل كيف تحدّد الممتلكات الثقافية التي تتمتع بالحماية؟ فيقول وفق الاتفاقية هي الممتلكات المنقولة أو الثابتة ذات الأهمية الكبرى لتراث الشعوب الثقافي كالمباني المعمارية أو الفنية أو التاريخية، الدينية منها أو الدنيوية، والأماكن الأثرية، ومجموعات المباني التي تكتسب بتجمّعها قيمة تاريخية أو فنية، والتحف الفنية والمخطوطات والكتب والأشياء الأخرى ذات القيمة الفنية التاريخية والأثرية، وكذلك المجموعات العلمية ومجموعات الكتب المهمة والمحفوظات ومنسوخات الممتلكات التي سبق ذكرها.

وتعتبر ممتلكات ثقافية أيضاً المباني المخصصة لحماية وعرض الممتلكات الثقافية المنقولة كالمتاحف والمكتبات ومخازن المحفوظات وكذلك المخابئ المعدة لوقاية الممتلكات الثقافية المنقولة في حالة نزاع مسلح.

وتعهّدت اتفاقية لاهاي حماية الممتلكات الثقافية لا أثناء النزاعات المسلحة فحسب بل عبر الاستعداد في وقت السلم، لوقاية هذه الممتلكات من قبل الحكومات من الأضرار التي قد تنجم عن نزاع مسلح، وذلك باتخاذ التدابير المناسبة. ولا يجوز لأي طرف قد وقّع على الاتفاقية أن يتحلّل من الالتزامات الواردة في هذه المادة بحجة أن الطرف الآخر لم يتخذ التدابير الوقائية المنصوص عليها.

وتجيز الاتفاقية بحسب الباحث وضع شعار مميز على الممتلكات الثقافية لتسهيل التعرف إليها، لكن يصبح وضعه إجبارياً أثناء قيام نزاع مسلح وذلك لوضع هذه الممتلكات تحت نظام الحماية الخاصة، والسماح بجعلها تحت رقابة ذات طابع دولي.

الدرع الأزرق شعار عالمي

أما الشعار الذي كثر الحديث عنه مؤخراً فهو عبارة عن درع مكون من مربع أزرق اللون في الزاوية السفلى ويقع فوقه مثلث أزرق اللون، وكلاهما يحدد مثلثاً أبيض من كل جانب. وفي جولة على مبانٍ أثرية وثقافية في العالم أجمع يمكن رؤية الدرع مثبتاً عليها. ولا يجوز وضع الشعار دون أن يوضع عليه أيضاً تصريح مؤرخ وموقع من السلطة الرسمية المختصة الموقعة على الاتفاقية.

البروتوكول الثاني الذي صدر في العام 1999 ركز أكثر على الاحتياطات التي يجب اتخاذها أثناء أي هجوم عسكري وتقضي بأن يبذل الطرف المهاجم كل ما بوسعه للتحقق من أن الأهداف المنوي مهاجمتها ليست ممتلكات ثقافية محمية بموجب اتفاقية لاهاي واتخاذ جميع الاحتياطات المستطاعة عند الهجوم بهدف تجنّب الإضرار العرضي بممتلكات ثقافية محمية والامتناع عن شن أي هجوم قد يلحق أضراراً جانبية بها.

من ضمن الممتلكات الثقافية بعضها وضعتها الاتفاقية تحت حماية معززة ومن شروط هذه الحماية أن تكون تراثاً ثقافياً على جانب كبير من الأهمية بالنسبة للبشرية، وأن تكون محمية بتدابير قانونية وإدارية مناسبة على الصعيد الوطني تعترف لها بقيمتها الثقافية والتاريخية الاستثنائية وتكفل لها أعلى مستوى من الحماية ؛ وثالثاً ألا تستخدم لأغراض عسكرية أو كدرع لوقاية مواقع عسكرية، أن يصدر الطرف الذي يتولى أمر مراقبتها إعلاناً يؤكد أنها لن تستخدم على هذا النحو.

من هنا يمكننا أن نفهم أن قلعة بعلبك تمتلك كل الشروط لتتمتّع بحماية معزّزة وما وضع الدرع عليها إلا تأكيد على ذلك. لكن في المقابل هل إسرائيل التي قصفت واحدة من أقدم الكنائس في غزة ومراكز ثقافية وإنسانية وارتكبت مجازر بحق الإنسانية سترتدع بشعار وهي التي تهدّد بتهديم كل لبنان؟


MISS 3