كريم مروة

وجوه وأعلام

المطران اللبناني غريغوريوس حجار مطران العرب والقضية الفلسطينية

2 حزيران 2020

02 : 00

"أنا مطران العرب. هذا لقب جميل أعطانيه أبناء بلادي (في فلسطين) على اختلاف مذاهبهم، في كفاحهم وجهادهم لتحرير بلادهم من ربقة الصهيونيين". فوجئت وأنا استعرض بعض الكتب الخاصة بالقضية الفلسطينية باسم المطران اللبناني غريغوريوس حجار. وتابعت قراءة تفاصيل سيرته الغنية الحافلة بالكفاح. ودُهشت لما يميز هذا المطران من ثقافة عربية ومن مواقف جريئة دفاعاً عن القضية الفلسطينية وضد الحركة الصهيونية. هذه المواقف هي التي قادته الى الاستشهاد على يد الصهاينة.

إنه المطران غريغوريوس حجار، بطاقة هوية تنوعت الأسماء والألقاب فيها. وعندما ترهبن، سمّي على اسم القديس الفيلسوف يوستينوس. ولدى سيامته كاهناً في دير المخلص تسمى باسم جبرائيل. ولما تسلّم أسقفية عكا في فلسطين بعد سيامته مطراناً باسم غريغوريوس، أقام قداساً حبرياً لأبناء طائفته، فلقبوه بـ"مسيح الشرق"، لغرته البيضاء وشعره الأشقر المنسدل على كتفيه.

من كل هذه الأسماء والألقاب كان الأحب إليه لقب "مطران العرب". فهو لقب لوظيفة لا علاقة لها بالطقس الديني. وهي تسمية كفاحية. ويقول في هذا الصدد أنها "تعلّي من شأني ومن قدري وتشجعني في كفاحي ونشاطي في سبيل فلسطين وإنقاذها من الخطر الصهيوني". والتزم المطران حجار بما يمليه اللقب، فكان صوت فلسطين في المحافل الدينية والوطنية والدولية، ودافع عن الحق الفلسطيني بما أوتي من علم ومعرفة وبلاغة ومنطق، مسفهاً حجج البريطانيين ووعدهم الظالم، الذي يسمى وعد بلفور، ومديناً الارتكابات الصهيونية، ومنبهاً أخوانه المسيحيين في لبنان من آثام التعامل مع الصهاينة.

لم يهــادن غريغوريوس البريطانيين والصهاينة. وقد كان لكلامه وقع السيف والسحر. ولشدة تأثيره على معارفه ومحيطه وخصومه، لقبه ملك الحجاز الشريف حسين، بـ"مفخرة هذه الأمة وعلم من إعلامها". أما الزعيم سعد زغلول فوصفه بأنه "أبلغ خطيب عربي".

حفظـت لنا الوثائق الشـهادة التـي أدلى بها امـام اللجنة الملكية البريطانية في القدس، عام الثورة الفلسطينية سنة 1936.

كانت اللجنة البريطانية تتوقع سماع صوت مسيحي، مختلف عن أصوات المسلمين الفلسطينيين. وقد خاب ظنها عندما سمعت المطران حجار يقف موقفاً متطرفاً مبنياً على تاريخ فلسطين وحقائق الوضع والكوارث المتوقعة، في ما لو غضت بريطانيا الطرف عن هوية فلسطين العربية بمسلميها ومسيحييها.

إستهل المطران شهادته أمام اللجنة معرفاً بنفسه كممثل وطني، لا كرجل دين مستقل، قائلاً:

"أتيت لأتكلم لا باسمي الشخصـي فقط، كرئيس ديني مستقل، وإنما لأنقل إليكم صدى ما سمعته وأسمعه من شعبنا العربي الفلسطيني في المدن والقرى، وأنا مختلط به اختلاطاً تاماً منذ 36 سنة كأسقف عربي، أحسُّ مع الشعب فأتألم لألمه وأفرح لفرحه وهو يفضي إليّ بذات صدره في كل فرحة...، العرب هنا في هذه البلاد من آلاف السنين قبل اليهود ولم يقوَ اليهود على طردهم وبقيت البلاد باسمهم الى الآن).

وفي سياق برهاني يؤكد المطران في مطالعته امام اللجنة على ان فلسطين ظلت عربية، برغم ما عرفته من ديانات أكانت يهودية أم مسيحية أم إسلامية.

هو ابن بشارة بن جرجس الحجار ووالدته زينة نعمة الحداد، من بلدة روم قضاء جزين.





مات والده فاعتنت به أمه، وأمنت له باب الدخول الى المدرسة الصلاحية في القدس، ليتعلم اللغة والحساب والدين. ثم التحق بدير المخلص. أغراه شاب مصري من آل الحجار فسافر معه الى مصر. تجرأ على الخديوي عباس فاستوقفه وهو في طريقه الى القصر، وقدم له التماساً للانتساب الى مدرسة عالية مجانية. لامه قريبه الكاهن الياس الحجار لتركه دير المخلص وخيّره: "هل تريد ان تكون "بك" أو "باشا": إرجع الى الدير لتصير مطراناً".

عاد غريغوريوس الى دير المخلص العام 1893 فترهبن. وبعد ثلاث سنوات سيم شماساً ثم كاهناً. وكان يدرّس في أثناء ذلك طلاباً أكبر منه سناً.

في صيف 1899 خلت مطرانية عكا الكاثوليكية، فاتجهت الأنظار الى من لمع اسمه وعقله ولسانه. أعيان عكا وحيفا والناصرة ألحوا على سيامته مطراناً، وكان له من العمر 25 عاماً. رفض غريغوريوس العرض الذي قدّم له وقال: "أصابعي خلقت للقلم لا للخاتم". لكنه أذعن في نهاية المطاف. وفي 28 آب 1900 بلغ عكا، قادماً من صيدا، حيث تولى الأبرشية مدة أربعين عاماً، وقد دشن إطلالته الأولى على رعيته بالقول: "هذا حجاركم الذي طالما تقتم الى مشاهدته، ظانين انه رجل كبير عظيم، وما هو بالحقيقة ـ كما ترونه ـ إلا قصبة ضعيفة يحركها الريح".

شارك المطران حجار بفعالية في تأجيج ثورة 1936، وأنفق من الأموال على الفقراء والمساكين ما جعل باب مطرانيته مفتوحاً لكل مساعدة.

بعد مقتله في 30 تشرين الأول 1940 أشاعت أوساط عربية أن الانكليز دبروا مصرعه. وكان المطران قد تساءل في مطالعته عن الوعد الذي اعطي لليهود، وعد بلفور، "أية قومية من القوميات يعنيها الوعد"! وإذ يؤكد ان الحلفاء خالفوا طريقتهم في تقسيم البلدان العربية في المشرق، فإنهم أعطوا وعداً لدين لا لقومية أو لجنس. ذلك أن نتائج ذلك الوعد ستكون وبالاً: "لا أظنكم إلا موافقين معي على انه لا يوجد شعب يهودي في العالم. ولو سألنا بلوم (رئيس وزراء فرنسا آنذاك) والمندوب السامي البريطاني هربرت صموئيل، من أية جنسية أنتما، لأجاب كل منهما بالانتماء الى الأمة التي يحكمها". وحذر المطران من مغبة يهودية الدولة في فلسطين: "ومتى أصبحت فلسطين داراً لدين واحد سيصبح أصحاب الوعد أصحاب البلاد ونحن كزنوج أميركا".

يعزو بعض كتاب سيرة المطران حجار الى أن هذه المواقف وسواها من المسائل التي أثارها في مواجهة الصهيونية اليهودية، وتزايد نفوذه الشعبي لدى الفلسطينيين من كل المذاهب، كانت من أسباب التآمر عليه واغتياله. وقد جاءت حادثة الاغتيال، إن صحت الرواية، في طريق "وادي المجال" على درب العزيزية في حيفا، بعد لقائه المندوب السامي البريطاني في 20 تشرين الأول من 1940، ونجاحه في مسعى الإفراج عن عدد من شخصيات الثورة الفلسطينية، الذين كانت قد صدرت بحقهم ظلماً أحكام تتراوح بين السجن والإعدام.





في حديث مع جريدة "الصحافي التائه" اللبنانية يحذر المطران مسيحيي لبنان ورجال الاكليروس منهم، من مغبة تأييد الصهيونية: "أنتم في لبنان مخدوعون في أمر الصهيونية، ولا ترون فيها غير المال الذي جاءت به الى بلادنا... إنه مالٌ باقٍ لليهود، وإذا استفاد منه بعض الملاكين القلائل عندنا، فهذا لا يعني ان فلسطين العربية استفادت منه... إن الفقر والحاجة اللذين يعيش بهما ابناء الشعب في فلسطين لم يسبق لهما مثيل... ان الاستثمار الذي قام به الصهيوني اخذ البقية الباقية من أموال الفلسطينيين".

وتأسيساً على هذا البؤس والظلم، ركب الفلسطيني الأخطار، في حرب كفاح مديد... ان اليأس الفلسطيني ليس منتجاً فلسطينياً، بل هو منتج الصهيونية. وبناء على ذلك يسأل المطران اللبنانيين: "هل تعتقدون أن في فلسطين غير الشقاء والفاجعة... ومع هذا فأنتم في لبنان لا تزالون تعتقدون ان وجود اليهود عندنا ثروة لنا... وبينكم ممن يتغنى بهم... ومن أحباركم الأجلاء يأخذ جانبهم... انتم بأجمعكم في لبنان، افتكرتم بتلك الجنيهات التي يصرفها بعض المصطافين اليهود أيام الصيف في بلادكم".

هذا الكلام عن لبنان على لسان المطران يبدو غريباً ومبالغاً فيه. لكنه أريده كما رواه من دون أن يكون لي الحق في أي تغيير عليه.

في سجل فلسطين قيادات كثيرة. ومن يريد أن يؤسس لدوام الذاكرة الفلسطينية وحياتها عليه أن يضيء شمعة المطران غريغوريوس حجار، بمعزلٍ عن الرأي في سيرته ومواقفه المتصلة بالدفاع حتى الاستشهاد عن القضية الفلسطينية استكمالاً لثورة 1936 وما قبلها وما بعدها.


MISS 3