فاروق مردم بيك

كان حلمه أن يعود إلى بيروت لإصدار جريدة

2 حزيران 2020

02 : 00

لعب المؤرخ فاروق مردم بيك دوراً أساسياً في حياة سمير قصير، كتبا معاً "مسارات من باريس الى القدس"، بالفرنسية، بجزءين. وفي هذه النص المكتوب باللغة الفرنسية يستعيد الناشر السوري ـ الفرنسي أكثر من ذكرى.

منذ بداية مساهمة سمير قصير في "مجلة الدراسات الفلسطينية" وجدت فيه فوراً الشاب الذي كنته قبل ذلك بستّة عشر عاماً. كان أقلّ خجلاً وأكثر انتقاداً. كل مرة يذهب التفكير اليه، تحضرني كلمات شهيرة لمونتاني: "اذا كثر الإلحاح عليّ للقول لماذا أحبه، أشعر بأنَّ هذا لا يمكن التعبير عنه بغير الإجابة: لأنه كان هو، ولأني أنا".

التزامات سمير قصير من أجل تحرير فلسطين، وسيادة لبنان، ودمقرطة سوريا، التي كانت ولا تزال هي التزاماتي، كانت تقودنا إلى التلاقي ربما كل يوم، وبخاصة اننا كنا نعيش في الحي الباريسي نفسه. لم تكن لدينا مع هذا نفس الصلة بفرنسا، رغم أن كل واحد منا، ومع فارق الستة أو سبعة عشر عاماً، كان يدرس في البعثة العلمانية الفرنسية، هو في بيروت وأنا في دمشق، وعلى الرغم من تقاربنا السياسي، وبالمعنى الأوسع، الأيديولوجي، فإن الكتاب الضخم الذي كتبناه سوية، مسارات من باريس الى القدس، فرنسا والصراع العربي الإسرائيلي 1917 – 1991، هو الذي سمح لنا، ليس بأن تكون لدينا "فكرة معينة عن فرنسا"، لأن ذلك حاصل قبل ذلك، إنما بأن نقيس بالملموس تداعيات ذلك على كل منا، بحسب تجربته، ومزاجه، وهمومه اليومية.

بعد كل هذه السنوات التي مرت في فرنسا، ومع القناعة الصميمة بأنني لم أعد استطيع العيش في أي مكان آخر غيرها، كنت اشعر بأنني أكثر انشغالاً بالنضالات الاجتماعية فيها، أو بنقاشاتها السياسية الداخلية. أما هو، فكان حلمه أن يعود إلى بيروت بعد نيله شهادة الدكتوراه. وعندما أدرك أن الظروف السياسية والاقتصادية في لبنان لم تكن تسمح له في الأمد المنظور بتحقيق حلمه، اكتفى بأن يكون الكاتب الأكثر طموحاً وألمعية في الصحافة اللبنانية وأن يصدر "الأوريان اكسبرس"، المجلة الفرانكوفونية التي أدعي أن لا موازي لها في العالم العربي.





نادراً ما شعرت بهذه التعاسة، بهذه الوحدة والهشاشة، بقدر ما شعرت يوم علمت باغتيال سمير. بعض الأصدقاء، الأكبر سنّاً منه مثلي تماماً، يستعيدون ذكراه بحنان كما لو أنه الأخ الأصغر، صغير العائلة الذي يدهشهم بذكائه الاستثنائي انما يثير حفيظتهم بتكبره وغروره. لا أنظر إلى علاقتي به على هذا النحو. كوني أكبر سنّاً منه، كانت لدي بلا شك طريقتي في الاعتزاز بمواهبه، وفي أن أعذر أهواءه، لكنني كنت أعرف، وأردت للجميع أن يعرف، أنّني مدين له بمعاودة الكتابة بعد فترة طويلة تسمّرت فيها أمام الورقة البيضاء.

عندما باشرنا في مشروع كتابنا المشترك، كان يقوم بزيارتي كل صباح لتشجيعي على الانكباب، ويعود قرابة منتصف الليل للتأكد إذا كنت أنهيت ما اتفق عليه. كان يمتلك يسراً مبهراً في الكتابة، ما سمح له – على سبيل المثال – ومع أنه لديه انشغالات أخرى – بأن يكتب "تأملات في شقاء العرب" في غضون شهر واحد.

وعندما قررنا، سمير وأنا، دراسة مفصلة لتاريخ الإنخراط الفرنسي في الصراع العربي – الاسرائيلي منذ ظهور الصهيونية السياسية وحتى حرب الخليج 1991، لم يحركنا فحسب التزامنا بالقضية الفلسطينية، لكن أيضاً الرغبة في ايضاح علاقة كل منا بفرنسا، أو بالأحرى بفرنستين، على ما جرى الإيضاح آنفاً. ولأجل هذا، حاولنا على امتداد هذا البحث أن نوضح العلاقات العاطفية للفرنسيين، بتنوعهم السياسي والأيديولوجي، مع أطراف الصراع العربي – الإسرائيلي. وحملنا هذا الى الأخذ بالاعتبار كل الفاعلين على المسرح السياسي، مباشرة أو بشكل غير مباشر، المعنيين بمسألة فلسطين، من الأحزاب السياسية الى الجهاز الديبلوماسي في "الكي دورسيه". ومن قيادة الجيش الى الصحافة، ومن الانتلجنسيا الى المؤسسات اليهودية. وقمنا هكذا، على سبيل المثال، برصد انعطافات السياسة الداخلية في "الجمهورية الرابعة". الموسومة بأزمة الامبراطورية الاستعمارية الفرنسية في الهند الصينية ثم في شمال أفريقيا، لأجل تفسير التحالف الضمني المعقود بينها وبين اسرائيل. كذلك، وبسبب الخيبة التي كنا نشعر فيها حيال المواقع التي كان يأخذها معظم المثقفين ذائعي الصيت عند كل لحظة مفصلية من هذا الصراع، وهي مواقف تتناقض مع المبادئ التي كانوا يدّعون الدفاع عنها، فإننا كنا نكثر الإلحاح على القوالب الممسكة بتلابيب فكرهم، التي كانت تحدد أسلوب تناولهم للعرب والمسلمين من جهة، ولليهود والاسرائيليين من جهة ثانية. وبعد أكثر من عشرين عاماً من صدور الكتاب، عندي شعور بأننا بحثنا ونحن نكتبه عن تصفية حسابنا مع فرنسا الاستعمارية باسم فرنسا الأخرى التي تعلمنا أن نحبّها.


MISS 3