الاتحاد الروسي هو نتاج انهيار الإمبراطورية السوفياتية، مثلما كان الاتحاد السوفياتي نتاج انهيار الإمبراطورية الروسية. عند النظر إلى تاريخ الإمبراطوريات الطويل، لن نتفاجأ حين ندرك أن روسيا اليوم أطلقت مشروعاً لإعادة إحياء إمبراطوريتها. لكنّ أكثر ما يثير الدهشة هو فشل هذه الجهود الروسية.
تنهار معظم الإمبراطوريات التي تبدو مستقرة ظاهرياً مع مرور الوقت، إلى أن تقتصر بقاياها على مركز السلطة الإمبريالي. تُعتبر الإمبراطورية البيزنطية والسلطنة العثمانية من أفضل الأمثلة على هذا المسار: خسرت كل واحدة منهما المزيد من الأراضي إلى أن اقتصرت الأولى على القسطنطينية الكبرى والثانية على المساحات التي تشكّل اليوم تركيا المعاصرة. لم تحاول بقايا هذه الدول أن تعيد إحياء زمن الإمبراطوريات. تَكرر الوضع نفسه مع الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية الخارجية، فقد انسحب البريطانيون من معظم مستعمراتهم بشكلٍ شبه طوعي ومن دون إطلاق نيران كثيفة، بينما حاول الهولنديون، والفرنسيون، والبرتغاليون، والإسبان، الصمود بأي ثمن لكنهم خسروا أمام حركات التحرير الوطنية في نهاية المطاف. امتنع الجميع عن إعادة إحياء الإمبراطورية في المراحل اللاحقة.
لكن تدخل روسيا في خانة مختلفة ومتقلبة من التراجع الإمبريالي. قد تنهار الإمبراطوريات فجأةً وهي في ذروة نفوذها نتيجة العوامل التي تحطّم الروابط الرسمية بين جوهر السلطة ومحيطها. حتى لحظة الانهيار المفاجئ، تحافظ تلك الروابط البنيوية والمؤسسية على حيويتها. الأهم من ذلك هو أن الفكر الإمبريالي يبقى حياً بعد الانهيار، فتطلق النُخَب في المركز الإمبريالي محاولات متلاحقة لإعادة إحياء إمبراطورياتها السابقة بالكامل أو جزئياً.
اليوم، يتساءل الروس وجيرانهم والعالم أجمع عن قدرة أوساط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على التمسك بالأراضي التي استولى عليها، أو حتى توسيع نطاقها. هل ستتابع بقايا الإمبراطورية الروسية السوفياتية التدهور إلى أن يتصدع الاتحاد الروسي بحد ذاته؟ يمكن الإجابة على هذا السؤال عبر تقييم العوامل التي أثّرت على قيام أو سقوط إمبراطوريات أخرى.
لإعادة إحياء الإمبراطوريات، قد تشمل الظروف المناسبة جيشاً قوياً، واقتصاداً متيناً، وحكومة كفوءة. لتسهيل هذه الظروف، تبرز الحاجة إلى استعمال الروابط المؤسسية القائمة بين مركز الإمبراطورية ومحيطها، وتحديد موقف القوى الخارجية التي تتجاهل التوسع الإمبريالي أو تتقبّله، ونشوء حُكم استبدادي في مركز السلطة. أما العامل المؤثر الأخير، فهو يرتبط بفكر إيديولوجي يؤجج الرغبة في إنشاء إمبراطورية.
لكن لنفكر بما يمكن أن يحصل لأي إمبراطورية متجددة إذا غابت تلك الشروط الأساسية الثلاثة، حتى لو توافرت العوامل التي تُسهّل هذه الحملة وبقي الفكر الإمبريالي قائماً. إذا أطلق المعنيون حملة توسّع من دون الاتكال على جيش قوي بما يكفي واقتصاد قادر على دعمه، لا مفر من تصاعد الأعباء وفشل العملية. ومن دون حكومة كفوءة، لا يمكن الحفاظ على الجهود اللازمة لتحقيق التوسّع المنشود. في هذه الحالة، يرتفع احتمال الإفراط في التوسّع وتكبّد الهزيمة، أو حتى تغيير النظام وانهيار الدولة.
تؤكد بعض التجارب التاريخية فشل روسيا الحتمي في إعادة إحياء إمبراطوريتها. لم تكن الشروط الثلاثة الأساسية متوافرة في الإمبراطورية الرومانية الغربية، ما أدى إلى تدهورها ثم انهيارها تزامناً مع تراجع فاعلية جيشها، وعجز اقتصادها عن إنتاج فائض مستدام، واستمرار الاعتداءات الهمجية المتواصلة، وتراجع كفاءة الحُكم مع مرور الوقت. في غضون ذلك، كان النصف الشرقي من الإمبراطورية بعيداً عن مسارات الغزو البربرية الأساسية، لكنه صمد طوال ألف سنة جديدة لأسباب أخرى. باستثناء نجاح الإمبراطور البيزنطي جستنيان في استرجاع أراضٍ بارزة في القرن السادس (عاد البلد وخسرها سريعاً بعد موته)، امتنعت الإمبراطورية الشرقية عن محاولة استرجاع حدودها القديمة. كانت هذه العملية لتتطلب التفوق على خصوم أقوى منها عسكرياً، بما في ذلك العرب، والأتراك السلاجقة، والبلغار. كذلك، لطالما تعاملت بيزنطة مع صراعات داخلية على السلطة وافتقرت إلى فكر إمبريالي قوي، ففضّلت أن تعتبر نفسها عرّابة المسيحية الأرثوذكسية. لهذا السبب، أدارت بيزنطية أراضيها المتبقية وامتنعت عموماً عن توسيع نطاق مساحاتها. نتيجةً لذلك، امتدت مرحلة انهيارها على قرون عدة.
امتنعت تركيا بعد الحقبة العثمانية عن إعادة إحياء إمبراطوريتها لأن فكرها الإيديولوجي انتقل من الولاء للسلطنة إلى الولاء للدولة القومية. أقدم كمال أتاتورك على تطهير آسيا الصغرى من الشعب اليوناني، لكنه امتنع عن توسيع حدود تركيا كي تشمل اليونان، ففضّل التركيز على إعادة توطين الأتراك ونقلهم من الإمبراطورية السابقة إلى البلد الجديد. في الوقت نفسه، أحاطت قوى خارجية قوية بالدولة الجديدة.
كانت القوى الاستعمارية الأوروبية الخارجية تتقاسم فكراً إمبريالياً متشابهاً في حقبة توسّعها، لكنها تخلّت عنه حين اتضحت نقاط ضعفها العسكرية والاقتصادية بعد الحربَين العالميتَين، وصراعات التحرير الوطنية، وتوسّع حملة الإدانة الدولية. لم تقرر تلك الجهات كلها التخلي عن إمبراطورياتها من دون خوض معركة قوية، لكن لم يحاول أيٌّ منها إعادة إحيائها أيضاً.
احتفظت ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى بفكر فيلتماخت الإمبريالي العدائي الذي كان وراء السياسات التوسعية للإمبراطور فيلهلم الثاني. ورغم الانهيار الاقتصادي بعد الحرب، استعاد الاقتصاد تعافيه سريعاً بعدما استلم النازيون السلطة في العام 1933. كذلك، أعاد أدولف هتلر إحياء الجيش وشكّل حكومة قوية. وفي ظل توافر الشروط والأفكار الإيديولوجية المناسبة، كان متوقعاً أن تطلق ألمانيا النازية حملتها لإعادة إحياء إمبراطوريتها. كانت لتنجح على الأرجح لو حصر هتلر طموحاته في المساحات الأوروبية الواسعة التي سيطر عليها بحلول العام 1941. لكنه فرض ميزان قوى جعل الهزيمة حتمية بعد غزو الاتحاد السوفياتي وإعلان الحرب ضد الولايات المتحدة.
على غرار ألمانيا النازية، من المتوقع أن يفشل الاتحاد الروسي في إعادة إحياء إمبراطوريته الغابرة. يبدو جيشه ضعيفاً بكل وضوح، ويساوي اقتصاده حجم الاقتصاد في إيطاليا أو تكساس، وبات نظام الحُكم فيه يفتقر إلى الكفاءة والاستقرار بعدما بدأت النُخَب تتصارع على السلطة مع اقتراب حقبة ما بعد بوتين. قد يتدهور وضع البلد المستقبلي بدرجة إضافية، لا سيما إذا بقي النظام متأثراً بنزوات حاكم مستبد واحد وتابع كبح الابتكارات التكنولوجية والنمو الاقتصادي.
باختصار، انهارت طموحات روسيا الإمبريالية، حتى لو كان الكرملين يحمل رأياً معاكساً. أما الرجل الذي يشرف على تدمير تلك الطموحات، فهو بوتين. هل كان الوضع ليتخذ منحىً مختلفاً في روسيا لو اختلفت الظروف؟ وهل كانت روسيا لتتمكن من مقاومة نزعتها إلى إعادة إحياء الإمبراطورية؟ سيكون الجواب على هذه الأسئلة سلبياً على الأرجح، نظراً إلى أهمية فكرها الإمبريالي وقوة روابطها المؤسسية والاقتصادية مع الجمهوريات السوفياتية ودول الكتلة الشرقية السابقة، حتى الفترة الأخيرة على الأقل.
ما هو الرد الغربي المناسب على هذه التطورات؟ بما أن مشروع إعادة إحياء الإمبراطورية في الاتحاد الروسي محكوم بالفشل، تقضي أهم الخطوات الواقعية بإطالة هذه العملية أو تسريعها بدل إيقافها. تعني إطالة مدتها أن تستمر مأساة الجماعات غير الروسية التي تستهدفها حملة إعادة ضم الأراضي وتتعرض لاعتداءات من الروس المكلّفين بزيادة معاناتها. في المقابل، يمكن تخفيف مظاهر الموت والدمار عبر اتخاذ الخطوات المناسبة لتسريع النهاية الحتمية لحملة إعادة إحياء الإمبراطورية.
بما أن تاريخ الإمبراطوريات يجعلنا نتوقع انهيار الإمبريالية الروسية، من المنطقي أن يقتدي الغرب بالفيلسوف كارل ماركس و»يسرّع ولادة الأوجاع التاريخية». من حسن حظ الغرب الذي يُركّز راهناً على أزمة الشرق الأوسط، يستطيع الأميركيون وحلفاؤهم أن يكتفوا بما يفعلونه أصلاً: دعم أوكرانيا لتحرير أراضيها من الاحتلال الروسي عبر منحها الأسلحة التي تحتاج إليها عاجلاً وليس آجلاً. إذا تابع الغرب إبطاء تسليم المعدات العسكرية أو قرر تخفيض كمياتها، سيطيل بذلك عملية حتمية ويزيد معاناة الناس. في مطلق الأحوال، تبقى الحملة الروسية لإعادة إحياء الإمبراطورية الغابرة محكومة بالفشل.
بما أن بوتين استعمل جميع موارده ورصيده السياسي في الحرب ضد أوكرانيا، سيكون ردعه هناك مرادفاً لكبح مشروع إعادة إحياء الإمبراطورية في كل مكان. قد تدفع الهزيمة بالبعض في النخبة الروسية وعامة الشعب إلى إعادة النظر بمفهوم الإمبراطورية، لكن لا شيء يضمن أن تنتهي الإيديولوجيا الإمبريالية في روسيا سريعاً، بل إن الانهيار على المدى الطويل هو الذي يضمن تلك النتيجة. لن تصبح روسيا دولة قومية طبيعية نسبياً وغير إمبريالية إلا إذا تابعت خسارة الأراضي التي تحتلها، لا في أوكرانيا فحسب بل في كل مكان. يبدو هذا الاحتمال ممكناً إذا خسرت روسيا في أوكرانيا، وإذا انهار نظام بوتين، وقررت جورجيا، ومولدوفا، وبيلاروسيا، وحتى بعض الشعوب غير الروسية في الاتحاد الروسي، الهرب من الفوضى المرتقبة عبر استرجاع أراضيها المحتلة أو قطع علاقاتها مع موسكو. ما لم يتكبد البلد أي هزيمة، ستبقى روسيا الضعيفة اقتصادياً أسيرة الإيديولوجيا وتحاول مجدداً أن تعيد إحياء إمبراطوريتها، لكنها ستُحقق دوماً النتائج نفسها: فشل، وموت، ودمار.