في خضم السباق المحتدم بين المرشحين عن الحزب الجمهوري لرئاسة الولايات المتحدة، بدأت السفيرة الأميركية السابقة لدى الأمم المتحدة، نيكي هايلي، تُحقق نجاحاً بارزاً. حتى أنها تتفوق في استطلاعات الرأي على حاكم فلوريدا، رون ديسانتيس، الذي كان يُعتبر حتى الفترة الأخيرة خصم دونالد ترامب الحقيقي الوحيد. هي تُذكّر الجميع بأنها حكمت كارولاينا الجنوبية سابقاً، واقتصرت نسبة تأييدها في بداية حملتها على 3% في استطلاعات الرأي. هي تنوي الاستفادة من هذا التقدّم خلال الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري بدءاً من كانون الثاني المقبل.
لطالما واجهت نيماراتا نيكي هايلي (51 عاماً) المصاعب في مختلف مراحل حياتها. ينتمي والدها أجيت ووالدتها راج إلى جماعة السيخ من البنجاب، وهما ينحدران من عائلات تقليدية ميسورة وكان زواجهما مدبّراً. تكتب هايلي في سيرتها الذاتية التي تحمل عنواناً تحفيزياً، Can't Is Not an Option (العجز ليس خياراً): «هما تركا كل شيء وراءهما لمنح أولادهما الفرص التي لا تقدّمها إلا الولايات المتحدة». لم ينقصها شيء يوماً، لكنها تعرف جيداً معنى العنصرية. كان والدها عالِم كيمياء، وقد فاز بمنحة لنيل شهادة دكتوراه في فانكوفر، كندا. لطالما وضع العمامة على رأسه ولا يزال يضعها حتى اليوم. لكن بقيت عروض العمل التي تلقاها نادرة. هو وجد عملاً كأستاذ في علم الأحياء في جامعة «فورهيس» الصغيرة في مدينة دنمارك، في كارولاينا الجنوبية، وهو مكان لا يرغب أحد في الذهاب إليه. استقرت العائلة، بعد اقتلاعها من جذورها، في قرية «بامبيرغ» التي تقتصر على 2500 شخص يعيشون في عمق هذه الولاية الريفية وشبه الإقطاعية من جنوب الولايات المتحدة. إنها واحدة من آخر المناطق التي تخلّت عن مظاهر الفصل العنصري. نيكي ووالداها هم الهنود الوحيدون هناك. كانوا ينظرون إليها في المدرسة وكـأنها كائن غريب ومثير للفضول.
كانت نيكي تبلغ 5 سنوات عندما سجّلتها والدتها في مسابقة «ملكة جمال بامبيرغ الصغيرة»، حيث تُصنَّف المرشّحات بحسب لون بشرتهنّ: السوداوات إلى اليمين، والبيضاوات إلى اليسار. لكن ما موقع نيكي؟ قرر منظّمو الحفل حينها استبعادها من المسابقة منعاً لإهانة المجموعتَين الأخريَين. لطالما كانت مختلفة وغير قابلة للتصنيف، وسرعان ما طوّرت استراتيجية كي يتقبّلها الآخرون: هي تتجنب المواقف التي تجازف بتهميشها وتنتقل إلى نشاطات ذات طابع جامع. حتى أنها تستعمل هذه المهارة خلال حملتها الراهنة. كانت نيكي مجتهدة في المدرسة، لا سيما في مادة الرياضيات، وسرعان ما تجاوزت صفَّين دفعةً واحدة. في المنزل، يطغى الانضباط على الجو العام: لا يمكنها أن تخرج في وقت متأخر، أو تنام لدى صديقتها، أو تجلب صديقها إلى المنزل. كانت نيكي طفلة حكيمة وغير متمردة بأي شكل، فاعتادت على العمل إلى جانب والدتها التي دخلت مجال استيراد وبيع الأغراض الغريبة في الصالون الذي تملكه. هكذا قررت دراسة المحاسبة، شغفها الأول. في عمر الثانية عشرة، استلمت حسابات شركة العائلة الصغيرة التي بدأت تُحقق النجاح.
حين دخلت إلى جامعة «كليمسون» المحلية العامة، اختارت دراسة الإدارة المالية طبعاً. هكذا تحوّلت الفتاة الصغيرة التي كانت تحرص على البقاء بعيدة عن الأنظار إلى شابة تجاهر بجذورها وترفض اعتبارها ضحية. سرعان ما وقعت في حب الشاب بيل هايلي وأعطته اسم «مايكل» لأنه يليق به كما تقول، ثم قررا الزواج. لكن تفرض التقاليد السيخية أن يختار الأبوان زوج ابنتهما. تحلى بيل بصبر فائق، ثم وافق والدها على زواجهما بعد خمس سنوات. في العام 1996، أُقيم زفافان: الأول وفق الطقوس السيخية، والثاني في كنيسة ميثودية تماشياً مع ديانة زوجها التي عادت واعتنقتها نيكي لاحقاً.
في المرحلة اللاحقة، عملت نيكي طوال سنتين كمسؤولة مالية في مركز لإعادة التدوير في «تشارلوت»، كارولاينا الشمالية، قبل أن تعود للعمل إلى جانب والدتها كمديرة مالية للمؤسسة العائلية «إكزوتيكا إنترناشونال» التي بدأت بكسب ملايين الدولارات. سرعان ما لاحظ الآخرون براعتها مع مرور الوقت، فانضمت إلى نادٍ خاص بقادة الأعمال، ثم فرضت نفسها في غرفة التجارة المحلية بفضل جاذبيتها الفائقة وطالبت بتقليص الإجراءات البيروقراطية في الشركات الصغيرة مقابل توسيع حرية عملها: إنه واحد من المواضيع التي تشغلها طوال الوقت. حين سألتها صديقتها إذا كانت تهتم بالسياسة، تبيّن أنها لا تعرف شيئاً عن هذا العالم. تقول نيكي: «عندما أرادت أن تعرف إذا كنتُ جمهورية أو ديمقراطية، أخبرتُها بأنني لم أفكر يوماً بهذا الموضوع. كانت السياسة غائبة عن نقاشاتنا في المنزل». مع ذلك، لطالما بدت قِيَمها منذ شبابها يمينية، ومحافِظة، وداعمة لقطاع الأعمال، ومعادية للدولة.
في العام 2003، حاولت نيكي خوض مغامرة انتخابية في دائرتها، فترشّحت لمنصب ممثّلة الدائرة 87 في غرفة ممثّلي كارولاينا الجنوبية. هي نافست لاري كون المخضرم الذي انتُخِب في منصبه منذ ثلاثين سنة تقريباً وتُعتبر عائلته من أقدم العائلات في الولاية: يحمل هذا التفصيل أهمية كبيرة في هذا النوع من الاستحقاقات. كانت المنافسة غير متكافئة بأي شكل، فقد افتقرت نيكي إلى المعارف والعلاقات العامة والإمكانات المادية لإطلاق حملة انتخابية قوية، ومع ذلك قررت انتزاع الأصوات «بأسنانها»، بمساعدة زوجها الذي كان يتبعها في كل مكان وولدَيها الصغيرَين اللذين اعتادا على الجلوس في المقعد الخلفي للسيارة خلال تنقلاتها. في البداية، كانت تلقى استقبالاً لائقاً قبل أن تتوالى الضربات والمشاكل. حتى أن البعض طلب منها أن تعود لرؤية أبقارها المقدسة في الهند. مع ذلك، كان الناخبون يطمحون إلى التغيير. تحكم مجموعة من العائلات القديمة كارولاينا الجنوبية، وقد يكون لاري كون أفضل مثال على هؤلاء «الفتيان الصالحين القدامى». في المقابل، ترمز نيكي هايلي إلى الحداثة. هي لا تحتاج إلى جهود كبرى كي تثبت أن النظام القديم سيتغير معها. تفاجأ الجميع بانتخابها وبتحوّلها سريعاً إلى واحدة من نجوم غرفة ممثّلي الولاية.
عندما حان موعد انتخاب حاكم جديد في العام 2010، ترشحت نيكي لهذا المنصب طبعاً. تساءل الناس مجدداً عن هوية هذه المرشحة المستجدة التي تواجه شخصيتَين مخضرمتَين في الحزب. لاحقتها هذه المرة شائعات عن حصول خيانة. حاول الصحفيون استكشاف الموضوع لكن بلا جدوى، إذ يستحيل التأكد من هذه المزاعم طالما تنفيها المرشّحة، ولا مفر من أن تنقلب هذه الادعاءات على مخترعيها في نهاية المطاف. انتُخِبت نيكي أخيراً وهي في عمر الثامنة والثلاثين كحاكمة للولاية. هي تعتبر هذا الانتصار أفضل رد على حملات التوعية الخاصة بالقضايا المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والعرقية، أو ما يُعرَف حديثاً بفكر «ووك». إذا كانت ولاية تقليدية مثل كارولاينا الجنوبية قادرة على انتخاب امرأة مثلها، يعني ذلك أن «الولايات المتحدة ليست عنصرية»، وهي عبارة تحرص على تكرارها خلال اجتماعاتها. تبغض نيكي جميع أشكال «سياسات الهوية»، وتؤكد بأعلى الصوت على أن التنوع ليس حكراً على اليساريين. تماشياً مع موجة التحفظ المتشددة التي أطلقتها حركة «حزب الشاي» وشكّلت طفرة مستجدة في أوساط الجمهوريين في العام 2010، مررت نيكي قانوناً يمنع الإجهاض بعد الأسبوع العشرين في ولاية كارولاينا الجنوبية، حتى لو كان الحمل ينجم عن سفاح القربى أو الاغتصاب. لكنها تمتنع اليوم عن إصدار الأحكام على من يؤيدون الإجهاض الطوعي.
عند انتخاب ترامب في العام 2016، كانت نيكي قد أصبحت من النجوم الصاعدين في حزبها، وعبّر الرئيس حينها عن حاجته إلى خدماتها. لكنها تمسّكت بعنادها مجدداً. اقترح عليها الرئيس وزارة الخارجية، فرفضت العرض لأنه منصب شديد المخاطر برأيها، ثم فضّلت أن تصبح سفيرة البلد لدى الأمم المتحدة. لم تكن نيكي تجد صعوبة في التكيّف مع المفاوضات الدولية المطوّلة. في الأمم المتحدة، نجحت نيكي في كسب تقدير زملائها تزامناً مع دعم مواقف ترامب غير الشعبية، بما في ذلك الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني أو اتفاق باريس للمناخ. وعندما عيّن الرئيس مايك بومبيو وزيراً للخارجية، شعرت بأنه قد يطغى على دورها، فتركت منصبها من دون أن تتشاجر مع ترامب.
تسجّل نيكي اليوم نتائج إيجابية في استطلاعات الرأي، لكنها قابلة للتغيير. وصفها الرئيس السابق في الشهر الماضي بعبارة «عقل عصفور». ثم وجدت أمام باب غرفتها في أحد الفنادق قفصاً فيه كيس حبوب وكلمة وقّع عليها عدد من مناصري ترامب. بالنسبة إلى نيكي التي كانت مجهولة في السابق، تؤكد هذه الخطوة على تأثيرها المتزايد اليوم. لا تزال نيكي بعيدة عن نتائج الرئيس الأميركي السابق، لكن إذا اضطر هذا الأخير للانسحاب من السباق بسبب عدم أهليّته وإدانته بتُهَم معيّنة، قد تحلّق نيكي في نهاية المطاف وتُحقق نتيجة غير متوقعة.